خارج الزمن يأتي على توقيت الخيبات يجيء، صارما مثل الحب في زمن الحرب، مباغتا مثل الموت في زمن الأزمة.. أخيرا يلتقيان، بعد زمن لم يعد مهما أن يسأل عن طوله ولا عن مدّته، في معرض للكتاب، أو في مهرجان لأحزان وخيبات أناس يسمّون - ربما خطأ أو جزافا، بالكُتاب.. "الجرائم المبنية للمجهول لا يقيدها التاريخ لأنها عادة ترتكب باسم الشعوب وفي غفلة منهم" بفرح طفولي تسير إليه وبصوت يكاد يعتذر عن الأشياء التي لم تصلح منذ أن غادرها كمطر ينسحب باكرا من فصله ودون إنذار مسبق وبشيء من الذهول يلمحها، لكن بصوت لا تنم نبراته عن أية مفاجأة.. يمد يده مصافحا. - كيف أنت ؟ (هل كان يقصد أن يقول لها كيف أصبحت ؟) - بخير، وأنت ؟ يمدّ يده.. يصلح من هيئة نظراته كمن يهرب من سؤال لم ينتظره أو ربما لم يطرحه على نفسه قبل الآن. - لا شيء جديد حتى الآن.. كان يريد أن يقول لها إنه لم يحقق شيئا يذكر بعد أن غادرته وفيما كان هو يتحدث كانت هي تتأمله بفرح متأني هذه المرة تتفحص وجهه، هيئته وأناقته الهادئة. ربما تريد أن ترتوي من تلك الملامح تحسبا لزمن لم تنتظره، فجأة قطع حبل تفكيرها . - توقعت تماما أن أجدك هنا.. أعلم بحبّك المجنون لمثل هذه الأماكن. ردت بشيء من عدم المبالاة حتى تقول له أنها تغيرت. أخطأت، هذه المرة أنا هنا استجابة لإلحاح صديقة تريد أن تضيع وقتا لم تعد تعرف كيف تنفقه. كان يرغب أن يقول لها "كما عهدتك دائما كاذبة، فاشلة، تفضحك ملامحك، لغتك، وحتى حقيبة يدك، عبثا تصرين أن تكوني امرأة مثل الأخريات أتعرفين أن الدخول في الصف لا يناسبك.." لكنه عدل عن فعلته في آخر لحظة ولم يقل شيئا.. اكتفى فقط بإطراقة وابتسامة هادئة تداري الكثير من الأشياء. يتجولان في أروقة الكتب، تكتشف أنه لم يتغير في شيء.. لا يزال يحب محمود درويش، غادة السمان، نزار قباني، وذاك الجيل الرائع من الكتاب المتمردين لا زال يغني فيروز بصوته الرجولي الذي طالما آسرتها بحته الجزائرية الممزوجة بالحنان و القسوة معا فجأة نطق ليقول: -أف؛ لم أجد ما أهتم به هنا، على ما يبدو، الناس لم تعد تهتم حتى بالمظاهر ..أن تقرأ وسط أناس لا يقرؤون مصيبة وأن تعيش في وسط يحتقر الكتاب مصيبتان.. أضاف بشي من الرجاء. لا أريد أن أكون بعيدا عن واقعي.. الهوة بيني و بين الآخرين تكبر وتتسع يوما بعد آخر، خيبة بعد أخرى، يكبر الشرخ بيني وبين نفسي.. بيني وبين الناس، كم هو مؤلم حقا أن يحدث لك هذا، كم هو صعب أن تتعامل مع واقع يصر أن يتنكر لك في كل شيء. ألهذا الحد صار بعدها خاويا؟ تسمعه الآن يكاد يبكى في حضرتها ليته يفعل؟ ربما سيتخلصان من ذك الشموخ المزيف الذي جعل حياتهما مجرد مسودات كثيرة الهوامش والتعقيبات، لكنها تعلم جيدا أنه لن يتنازل أبدا عن جزائريته التي يمارسها بامتياز، خاصة أمام النساء، لذا اكتفت هي بقول تعمدت أن يبدوا فيه شيء من الغباء. - معك حق فهناك ناس عندما نلتقيهم فقط نكاد نندم على حياتنا حتى لو كان لقائهم صدفة، فما بالك أن تعيش مع أشخاص قد نتحملها عنوة. على الأرجح فهم إشارتها تلك، فراح يجيبها بنفس المنطق. ومع ذلك هنالك أناس آخرون عندما نلتقيهم، نعوض بهم ليس فقط ما فاتنا من خسارات، لكن ما قد لا يكون أبدا. ما أتعسها لعبة الغمّيضة خلف الكلمات، فهي كالطريق الذي لا يفضي إلى أي اتجاه، لذا اختارت الصمت دون أن تغامر بقول المزيد من الكلام الأعمى فقد حدث أن نسيت أنهما في مدينة واحدة يتنفسان هواء واحدا وربما يسلكان نفس الطريق كل صباح يتقاسمان متاعب المهنة الواحدة وربما نفس الحلم والغيرة، فقد يفرحان على توقيت الأحلام المؤقتة ويبكيان على ذات النكبات التي لا وجه لها. يروح كل منهما يسرد على الآخر قائمة اهتماماته القديمة و جدول يومياته الذي لم يتغير فيه شيئا منذ أن تعارفا ذات ربيع وافترقا ذات خريف. يسأل كل منهما الآخر تلصصا على أخبار جديدة تكون قد تسللت خطأ لذاكرته سرقهما الوقت بين رفوف الكتب وأوراق المؤلفات تحدثا كثيرا في ذلك المساء دون أن يقولا شيئا محددا. تحدث إليها في كل المواضيع والاتجاهات.. فقط ليقول لها إنه نفس المعاند والمكابر لم يتغير. وكالعادة دائما صمتت هي في أغلب الوقت.. فقط لتقول له إنها ما تزال تلك التي تضع كبريائها في مقدمة أي شيء تكون يصدده. بعصبية الساهي نظر إلى ساعته.. "يجب أن أغادر سألتحق بعملي بعد أقل من ساعة". في زحمة الجمهور الباحث عن المخارج في اتجاه الباب لمحته فجأة ينحني على إحدى الرفوف وهو يلتقط كتابا.. لمع في مخيلتها شريط الذاكرة عندما قرأت عنوان الكتاب الذي كان يوما بداية لقصتهما، فقد أحبته داخل هذا كتاب كأبطال القصص الخرافية، وهي اليوم تحاول أن تنساه بما يضاهي ذات الكتاب عندما حاولت عبثا أن تكرهه، فقد حدث يوما أن وقف أمام طاولتها في مكتبة الجامعة ورفع الكتاب بدون استئذان محاولا التلصص على محتواه قائلا "اعذريني آنستي فأنا رجل ضعيف أمام الإسرار المتوارية خلف دفتي كتاب". يومها لم تستسغ تعجرفه ذاك لكن أرادت للحظة أن تستفزه لتزهو قليلا بكبريائها أمام رجل ابتسمت وقدمت له الكتاب هدية قائلة: -لا أفهم كيف يمكن لرجل أن يضعف أمام كتاب، فعادة رجال هذا الوطن أن يضعفوا فقط أمام النساء، أمام السلطة والمال؟ لم يرد على سؤالها.. ربما لم يرد أن يفضح نفسه أمامها في أول لقاء بينهما، فقط اكتفى بابتسامة ذكية وهو يمد لها قلما. أرجو أن تكتبي لي شيئا عليه فأنا أكره دخول بيوت الآخرين دون استئذان، لذلك كانت المدن التي لا تقاوم ولا تفتح بالغزو لا تثير فيا كثيرا الرغبة في الإكتشاف. بغباء أنثى راحت تكتب له صك امتلاكها على بياض دون أن تدري أن الحرائق الكبيرة عادة ما تبدأ من مجرد كلام بريء. وبخط مضطرب أمام البياض المتواطئ، مع أناقة قلم أسود تبعث منه رائحة عطر تكشف عن ذوق صاحبه كتبت بلغة تعمدت أن تكون بالفرنسية حتى لا يفضحها حزنها العربي. أتمنى أن تجد في هذا الكتاب ما يلهيك عن شن الحروب، احذر فعادة ما تكون المدن المسالمة أكثر خطورة من الحصون المسيجة" تسمرت للحظات تحاول أن تمسك بشريط الذاكرة الذي بدا لها موغلا في البعد حتى أنها بدأت فعلا تنسى تفاصيله تكلمت لتقول بصوت منكسر. - ما زلت تقرأ هذا الكتاب؟ بنفس النبرة أجاب: "كان يوما ما مشروع وطن". كان.. هذا الحرف الذي يقول اللغويون إنه فعل ماض ناقص يحتاج دائما لشبه جملة تكون في محل الرفع أو الجر، وهذا حسب النوايا التي لا يمكن دائما الإفصاح عنها مباشرة. بالنسبة لها لم يكن سوى بداية لعناد أخذها بعيدا عن سبق إصرار على ارتكاب خيبة مبرمجة تبقى آثارها ماثلة على جدران وطن لم يعرف يوما الحرية ذاك الوطن الذي كان، ترى كم بقي منه؟ إلى أين وصلت به تلك الشبه جملة؟ هل رفعته أم نصبته على وقع الخيبة؟ وجدت نفسها غارقة في لعبة سخيفة مع النظام اللغوي الصارم وراحت تسأل نفسها لماذا اللغة دائما وقع مؤنث وفعل مذكر ؟ للحظة همت أن تفتح معه هذا النقاش فهي تعلم جيدا عشقه للنقاشات الصاخبة، لكنها تراجعت أمام مفترق الطرق الذي يترصد خطاهما معلنا نهاية تلك ال"كان ". مرة أخرى مصافحة عجلا وحديث مقتضب بالفرنسية، فالعربية كانت دائما لغة الأحزان الكبرى والمنافي الكبيرة.. هكذا أرادت يومها أن تقول له بالفرنسية المحايدة تجاه المشاعر والباردة تجاه القلب، معلنة هذه المرة قتل أشباه الجمل التي غلفت حزنها ليالي عديدة.