دفعت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي طرأت على المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة، إلى تأخر سن الزواج بالنسبة للذكور والإناث على حد سواء. ورغم تنوع الأسباب واختلافها لدى كلا الجنسين إلا أن النتيجة تصب دائما في خانة العنوسة قسرية كانت أو اختيارية. عرف المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة تفاقم ظاهرة تأخير سن الزواج التي مست الجنسين ذكورا وإناثا، ما أدى إلى ظهور مشكلة العنوسة التي بلغت معدلات مرتفعة، ترجمتها الأرقام الحديثة الصادرة عن الديوان الجزائري للإحصاءات، حيث بلغت نسبة العزوبية 30 بالمائة في أوساط السكان الذين يفوق سنهم ال 15 سنة، أي أن 9 ملايين جزائري من الجنسين هم عزاب. ولكشف مختلف الدوافع التي أدت بالشباب الجزائري إلى تأخير سن الزواج والذي قارب في السنوات الأخيرة عتبة 35 سنة بالنسبة للرجال و32 سنة لدى النساء، حيث بلغت نسبة العزوبة في صفوف الرجال 5,32 بالمائة وهو ما يعادل نحو خمسة ملايين أعزب، في حين قدرت في صفوف النساء فوق 15 سنة ب27 بالمائة أي نحو 4 ملايين امرأة عزباء. قامت ''الحوار'' باستطلاع آراء عدد من الشبان والشابات حول أهم الأسباب التي دفعت بهم نحو إهمال فكرة الزواج وتأجيلها إلى أعمار متقدمة. بالنسبة للذكور .. ''المتطلبات المادية'' حجر عثرة أمام الزواج في سن عادية الكثير من الشباب الجزائري اختار العزوبية مكرها بسبب كثرة العوائق التي تقف اليوم حجر عثرة في طريق أعداد كبيرة منهم من أجل إكمال نصف الدين، كالأزمة الاقتصادية والبطالة وضعف الراتب الشهري وغلاء المعيشة والمهور وارتفاع تكاليف إيجار الشقق وأزمة السكن... وفي هذا الصدد أكد لنا عدد لا بأس به من الشباب على اختلاف مستوياتهم التعليمية، أن العامل الاقتصادي بات العائق رقم واحد وراء تأخر سن الزواج وتكوين الأسرة، وهو ما صرح به الشاب ''محمد'' طالب جامعي يبلغ من العمر 23 سنة قائلا: ''أنا شخصيا لا أفكر إطلاقا في قضية الزواج خصوصا في الوقت الحالي، وذلك ليس بسبب أنني أكره فكرة الاستقرار وإتمام نصف الدين، ولكن يعود السبب بالدرجة الأولى لكوني عاجزا عن توفير المسكن الخاص بي والسيارة وكذا المهر اللازم، إذ أنه علي التخرج أولا ثم إيجاد وظيفة توفر لي مرتبا محترما''. مضيفا: ''لا يمكنني تحقيق هذا كله إلا بعد أن يصبح سني في حدود ال33 إن لم اقل أكثر، خاصة مع الغلاء المتزايد الذي تشهده بلادنا في السنوات الأخيرة''. في حين بدت علامات التعجب والاستغراب على ملامح الشاب ''حسين'' لدى سؤالنا له عن رأيه في الموضوع حيث قال: ''الأسباب واضحة وضوح الشمس ولا تحتاج إلى من يوضحها أكثر، أنا مثلا بلغت سن الثلاثين ومازلت غير قادر تماما على فتح بيت وتكوين أسرة، ورغم أني حاصل على شهادة جامعية، إلا أنني مررت بفترة بطالة طويلة وبعدها حصلت على وظيفة بالكاد استطعت من خلالها توفير المصاريف الأساسية، وبالتالي فإن مشروع الزواج بالنسبة لي صعب تحقيقه في الأجل القريب، وهو حال كثير من الشباب في مثل سني للأسف''. الزواج مشروع ثانوي يسبقه تحقيق الاستقلالية يفسر العديد من الباحثين الاجتماعيين ظاهرة تأخر سن الزواج لدى الفتيات الجزائريات، بالتحولات التي طرأت علي المجتمع الجزائري، حيث باتت المرأة أكثر حرية في إدارة شؤون حياتها بعد أن ضمنت منصب شغل ورصيد مالي في البنك، ما جعل الزواج وتكوين أسرة كأولوية يتراجعان إلى المرتبة الثانية أو الثالثة في حياة المرأة الجزائرية لصالح ما بات يعرف اليوم ''العنوسة الإرادية''. لقد أصبح الطموح العلمي للفتاة من العوامل الرئيسية التي أدت إلى تفشي ظاهرة العنوسة وسط الجزائريات، حيث ترفض المرأة الزواج ممن يتقدم إليها حتى تحصل على الماجستير والدكتوراه، ثم تعيقها قضية البحث عن الوظيفة والاستقرار فيها، هذا إضافة إلى قائمة الشروط الطويلة التي تضعها الفتيات في فارس الأحلام، والتي أججتها المسلسلات الأجنبية، لتبقى على هذه الحال حتي يفوتها قطار الزواج وتجد نفسها في الأخير عانساً. فالكثير من النساء في هذه الفئة اخترن طواعية أن يكن عانسات لأنهن يرفضن الزواج بمفهومه الحالي، أي وسيلة لتسلط الرجل على المرأة وإحكام سيطرته عليها وعلى ممتلكاتها. وهو الأمر الذي فندته بعض الشابات، حيث أكدت لنا الآنسة ''أمينة'' طالبة جامعية، أن الاستقلال المادي والوظيفة هي الأولوية في وقتنا الحالي، مؤكدة أنها ترفض الرضوخ لسيطرة الرجل خاصة بعدما قضت حياتها في الدراسة والاجتهاد، مضيفة بقولها: ''الشباب في زمننا الراهن عديمو المسؤولية إلا من رحم ربي، وبالتالي فإنني لا أحبذ فكرة الارتباط مع أي شخص يتقدم لي''. الرجال يطمعن في مساكن العازبات ومن العوامل الأخرى كذلك يمكن أن نذكر سلوك المرأة التي أوتيت حظا قليلا من العلم واستطاعت أن تحصل على منصب شغل يوفر لها راتبا شهريا، لكنها على غرار المرأة المثقفة باتت لا تفكر في تكوين أسرة وإنما أصبحت تري في الزواج نهاية راتبها الشهري وضياع استقلاليتها المالية، ما جعل الكثير من العاملات يرفضن كل من يتقدم لخطبتهن حتى فاتهن قطار الزواج ووجدن أنفسهن في قائمة العانسات. لكن هذه النظرة تبقى نسبية خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الجزائريون اليوم وتراجع قدرتهم الشرائية وغلاء المعيشة، حيث أصبح الكثير من المقبلين على الزواج من ذوي الدخل المحدود لا يمانعون في الارتباط بالمرأة العاملة حتى تعينهم على نوائب الحياة وظروف المعيشة الصعبة. من زاوية أخرى، وبالإضافة إلي التفسيرات الاقتصادية لتأخر سن الزواج يمكن أن نضيف عاملا آخر له علاقة بالتقاليد، فالكثير من العائلات الجزائرية تحرص على تزويج البنت الكبيرة قبل الصغيرة، أو ترفض تزويج ابنتها بدعوى أنها لاتزال صغيرة، فضلا عن فرض الشروط التعجيزية على الذي يتقدم لخطبتها.