كم مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات أجد في نفسي دينا إزاء هذا العالم الجليل، والمجاهد الفذ، ذاك الذي راح ليل النكران يجتاحه رويدا رويدا، فيصمد ويحتسب، يسحقه المرض فيمكث في بيته أشهرا ولم ينهزم، كان يخرج بملامح الآباء الوقورين، وهدوء المهيبين، ظل وفيا لرسالة الإصلاح، ترافقه، حتى حملت معه على الألواح، إلى مستقر الأرواح، وليس أكرم من هذه اللحظات المعبرة، التمسها لأتناول على عجالة أعمال الرجل، وخصاله، وقد استراح وإلى الأبد، في أول رمضان 1427 من العام 2006,. عاد إلى الهمود الترابي، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس، عن عمر يناهز 95 سنة، إذ ولد عام 1911 فماذا تقول الكلمات في هذا الرجل؟ المجاهد السجين، والإمام المقتدر، والمجتهد المصلح، عضو المجلس الإسلامي الأعلى، ومدير الشؤون الدينية، في ولاية التيطري والواحات ,1972 ثم ناظرا في ولايتي الأغواط والجلفة، وعضوا في المجالس العلمية، ولجان الإفتاء، والمشارك المساهم في ملتقيات الفكر الإسلامي، وصاحب المخطوطات والأعمال الفكرية.. كتاب في تاريخ الثورة والحركات الوطنية، رسالة في تطوير الفكر الإسلامي، رسائل وفتاوى.. من منا لا يعرف ''أخذاري بولنوار''؟ الرجل الذي وهب حياته فداء للجزائر، ولخدمة الإسلام، واللغة العربية، ذلك الذي وضع كتفه سلما ليصعد الآخرون، من أجل نجاح مؤسسة المسجد ورسالة الإمام، كانت عدته الكلمة الطيبة، والمداعبة الجميلة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كانت مواقفه جريئة، تبرق كالنور، وكانت عباراته تتألق كالشعاع، يداعب أحلام الأئمة وهو مدير للشؤون الدينية، يراود أخيلتهم، وأمزجتهم التي امتلأت بدعا وخرافات، متأثرين بتعليم شعبي، تلقونه قبيل الاستقلال. والظاهرة هذه مع فجر الاستقلال لم تكن صحية، ولا حيوية على الاطلاق، لوجود بعض الانحرافات المثيرة، ولقد وجد في الأئمة الذين تعلموا في الزوايا العلمية، وجمعية العلماء، الكفاية، والاستعداد والتعاون، والرغبة في التكوين، وكان يجلي عنهم كابوس الوهن ويدعوهم في رفق إلى التعاون مع بعثات الأزهر الشريف، والاستئناس بهم، ثم مناقشتهم، مشجعا إياهم على المنافسة والتألق علما ومظهرا. كان صمت الجو في السبعينيات يساعد على البذل والعطاء، ويتقبل أصداء الإفتاء وينقلها، فيستعجل التخفيف من أسئلة تثقل صدره، فيصدر سلسلة من الفتاوى، تثير حفيظة البعض، وترضي البعض الآخر، كان منتشيا باليد الناعمة التي تحرسه وتغذي مشاريعه الإصلاحية (مولود قاسم) عليه الرحمة والرضوان، اليد التي كانت تمسح عرق إطارات وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، وتعفو على متاعبهم، وتمدهم بالعون والإسناد، من تلك القلاع التي شيدت عبر أرجاء الوطن، (المعاهد الإسلامية)، لقد حرس الكل على الانتفاع بمواقفه الدينية، والوطنية ودفعاته ونوداته، بكل ما في أحاديثه الشيقة الرافضة للتزمت المقيت، وكتاباته الوفية، وأشعاره المهذبة ومواعظه الإصلاحية الرزينة، وبما كان يملأ نفسه من حماس جهادي فياض، وهو يقف شامخا ومن حوله المساجين في معتقل ''عين وسارة'' عام ,1959 وصرخات الإعجاب تثير الدهشة، أصوات الانفعال الملذة منادية بالصمود، كان يظهر بين المساجين واعظا، ويختفي ناصحا، كان المحققون يلهثون وراء أخبار يرويها المخبرون، ويروج لها العلماء، فينفلت من بين أيديهم متنكرا، وتتجدد اللقاءات في الأفنية، في الزنزانة، وفي البيئات المغلقة. لقد كان اندلاع الثورة المباركة في تلك المرحلة، ضرورة فرضتها فرنسا الاستدمار بظلمها، بجبروتها بوحشيتها، كانت تعمل على إقامة ثقافة تضمن لها البقاء، وتدعم مخططاتها وأطماعها، فتنتهج سياسية عزل الجزائريين، عن أصلهم وعن مقوماتهم، ليسهل ابتلاعهم، ومسخهم، مركزة على اللغة العربية وآدابها، مستهدفة الإسلام، قد عمدت إلى محاربة الجزائريين بالجزائريين. وأن المناخ الأدبي والعلمي السائد يومئذ هو جزء من الحياة الثقافية الصامدة، بل رافد من روافدها المعول عليه، ولعل هذا الذي جعل الزوايا العلمية تتعرض إلى مضايقات، فتكون ردود أفعال الطلبة فيها قوية، تتوسع حلقات العلم، وتزداد الرغبة في التحيل، وتتوحد الرؤى، ويزداد الأمر نظاما وثراء، وتنوعا (علوم اللغة وآدابها، الشريعة وأصول الدين، الفلسفة وعلوم التصوف، الرياضيات والفلك).. وتظهر في الأفق أفكار جديدة، يبثها مناضلو الحركات الوطنية، فيحتضنها الطلبة، ويصنعون منها رأيا، وتتبلور الأفكار، فتتحول إلى مواقف مطلبية، وجهادية، وتشاء الظروف أن يكون ''أخذاري بولنوار'' واحدا من هؤلاء البررة، تتضافر آثار البيئة التي ولد فيها وترعرع، والتي كان يحيا فيها، وهي بيئة ثقافية متميزة (الهامل) وزاويتها العامرة، والبيئة الجديدة التي اندمج فيها، فوجدها تعج بالحركة وبالأفكار الجريئة المناهضة للاستعمار، وتلك هي مدينة قصر الشلالة، منفى الأحرار ومدرسة الوطنية والدهاء السياسي، فيها ومنها أبحر في سفينة الجهاد، حفظ القرآن الكريم في سن مبكر، وتلقى تعليمه الابتدائي عن والده وأفراد أسرته، وهم أصحاب زوايا متنقلة. مكث في زاوية الهامل ابتداء من سنة ,1936 وأجيز من مشيختها، في العام 1943 كلف بالتدريس في الزاوية (الهامل)، وفي العام 1949 أرسل إلى زاوية (تاخمارت) بولاية تيارت أستاذا، كان ذكيا دقيق الفهم، نير الفكر، مشرق الروح، سديد التصرف، عميق الغوص في المسائل الفقهية، واللغوية، يحمل بين جنبيه قلبا عامرا بالاهتمام، اندمج في وقت مبكر في الحركات الوطنية، والتحق بالثورة، وألقي عليه القبض، سجن وعذب عذابا أليما، أفرج عنه في: 21 - 04 - 1961 وللتو عين قاضيا من طرف قيادة الولاية الرابعة، بعد الاستقلال عين إماما في قصر الشلالة، ثم مديرا للشؤون الدينية ابتداء من عام 1971 إلى أن أحيل على المعاش عام 1992 وبقي في نشاطه الإصلاحي صامدا إلى أن أطاله الإقصاء فانعزل، ومكث في بيته إلى أن لقي ربه. لقد انشعب دورنا في الصمت أو في هذا الصخب، فلم نعد نلتفت لكبارنا، ولا لعلمائنا، غاب المعنى الحقيقي للحياة الثقافية، في أذهان المفتونين، والقابعين وراء هذه الظلال البراقة، التي أوشكت أن تحجب عن العيون البصيرة الحقيقة، لولا لطف الله، لقد استغرق في الأذهان المفهوم الخاطئ للتحضر والديمقراطية، والتفتح، وفهم التاريخ حسب الأهواء، وكان إهدار الوقت في هذه المناقشات غير الولود، المكفرة حينا، والمسفهة للنوايا في كثير من الأحايين، والمخالفة للجماعة، مصدر كل الشرور والآثام، وسببا في الأتعاب والأزمات. وما من شك فيه، فإن تباين المواقف بين الأجيال إلى درجة رفض الآخر، لم يكن اعتباطيا، ولا نتيجة هذا الكم الهائل من المعارف، ووفرة مصادرها وتنوع مشاربها، إنما كان نتيجة إهمال الإنسان الذي كرمه الله، وتعطيل قنوات الاتصال والتواصل، نحن لم نهيئ أنفسنا لجديد العصر، فغيبنا التقاليد والعادات الطيبة، واعتبرناها من النفايات التي يرميها البناؤون، نحن لم نقرأ الأحداث بنتائجها بل اكتفينا بالقشور نلوكها، فنجد في ذلك متعة، ونبتلعها فنجد فيها لذة، ونتنكر لسلفنا الصالح، ولذوي الفضل علينا، ولا شيء أضر على الدين والسياسة والثقافة من إشراك العامة فيما هو شأن الخاصة، وإنزال الجهلة منزلة العلماء. إن أشياخ الزوايا العلمية، وعلماء الجزائر، والأئمة وطلبة القرآن قبل الاستقلال، أقاموا صرحا للقرآن الكريم بصمودهم، وانشؤوا زوايا ثابتة وأخرى متنقلة لتعليم أبناء الجزائريين المحرومين، من بين هؤلاء أسرة أخذاري بولنوار، والده وأعمامه، فالرحمة عليهم والرضوان. فهم وغيرهم من معلمي القرآن جنود مجهولون، وإن الجنود المجهولين لهم في كل مكان وزمان قبر، فهل تراه يحظى بشيء من تكريم الجندي المجهول.. فسلام عليه طالبا ثائرا وسجينا مجاهدا، وسلام عليه طليقا ومسؤولا وعالما عاملا، وعليه سحائب الرحمة ما ترددت آيات الله في الصدور.