أصبحنا في زمن مهلك لافتقادنا الأمان والطمأنينة في حياتنا وداخل صدورنا، لعيشنا مع من هم حولنا بحذر، فقد تغير الزمان وتبدلت مفاهيمه وأخلاقياته لنجد أنفسنا مجبرين على التعايش مع أشخاص يقحمون أنفسهم بين الأسطر والجمل.. غير مكترثين بالشخص الآخر، ولا بحياته الشخصية، فكل فرد منا يتمنى العيش بخصوصية مطلقة بعيدا عن أنظار أشخاص يفتقدون للغذاء الروحي من الرضا والقناعة الأبدية، يعتصرون أرقا إن لم ينعشوا حياتهم بما لا يعنيهم.. وهم في تزايد، يشكلون نسبة خطيرة على مجتمعنا، يعيشون على طاقات تطفلية خارقة هي طعامهم وشرابهم وإمداداتهم الحياتية.. يؤثرون ويهدمون بيوتا بإقحام أنفسهم في خصوصيات غيرهم، وكأنهم خلقوا فقط لهذه المهمة الناقمة على أنفسهم أولا ثم على غيرهم.لاتزال الظواهر السلبية في مجتمعنا تتنامى و تنتشر وتشتد تارة و "التقرعيج" نال حصة الأسد من التفشي والانتشار، إذ لم تعد تقتصر على النساء بل شملت حتى الرجال الذين أصبحوا و الأطفال الذين أصبح عملهم الوحيد والأوحد التطفل على الناس ومراقبتهم ك"فلان متى خرج .. ولماذا خرج، وأين ذهب.. متى تخرج وتوظف وكم يتقاضى.. ماذا تحتوي قفتة.. لماذا لم تتزوج لحد الآن .. لماذا تزوجت فلانة وتركت أختها .. مضى عليها أكثر من سنة ولم تنجب زوجته .. هل الخلل منها أو منه و.. !!!!" وسلسلة طويلة لا تنتهي، من أناس غرضهم فقط "التقرعيج" والتطفل على خصوصيات الخلق، هم أناس متطفلين ليس لهم أي هدف بسؤال مثل هذه الأسئلة سوى إشباع فضولهم، وللأسف الشديد هم كثير ومتواجدون في كل مكان، في الجلسات العائلية، في العمل، في السوق، في الشارع، في المسجد، من جميع الفئات، الأمي، المتعلم، الجامعي وصاحب الشهادات العليا . ظاهرة الفضول والتدخل في شؤون الآخرين بالرغم من أن "التقرعيج" ليست بالظاهرة الجديدة والحديثة على متمعنا الجزائري العريق، إلا أنها كالمد والجزر تنتشر وتشتد تارة و تتقلص وتنكمش تارة أخرى حسب الظروف التاريخية وإفرازاتها وتأثيراتها في المجتمع .فالتطفل أو التقرعيج في الوقت الراهن يتسبب في عرقلة حياة الغير وتشويش برامجهم اليومية، بسبب بعض الفضوليين الذين يتطفلون بحجة النصيحة أو السؤال عن أوضاع وأخبار كريمة أو فريد وهي حجة واهية ولا تصلح مبررا لانتهاك خصوصيات الناس بل قد يكون العكس هو الصحيح فسؤاله عن غيره قد يكون نابعا من فضوله وتطفله بل حسده وحقده وغيرته لذا ورد في الأمثال الجزائرية العامية "اللي يعمر القرع.. يموت بالغاز" أعراض الناس .. هل أصبحت مستباحة ؟ وفي عرض للموضوع على بعض المواطنين، جاءت الاتحاد بالآتي: يقول فيصل مدير بمؤسسة عمومية" قد يكون حب الاستطلاع بهدف التعلم وكشف الحقائق وتفحص الوقائع إيجابيا، ولكن ما يعنينا في هذا الفصول التطفل على الآخرين، إلى درجة التدخل في شؤونهم الخاصة والانشغال بأمور لا تعنينا ولا تمت إلينا بصلة. وقد تعود أسباب هذا الفضول أو التطفل إلى مجرد التسلية أو حب الاستطلاع على مشكلات الغير، أو حتى أيضا إلى الاستفادة من المعلومات والأسرار بغية السيطرة عليهم أو إلحاق الأذى بهم عن طريق ابتزازهم". من راقب الناس مات هما أما وداد.ب طالبة فتقول"لا عيب في أن نهتم بأمور صديقة بهدف مساعدتها على حل مشكلتها، أو أن نتابع أخبارها فنفرح لها في نجاحها ونسعد لسعادتها، ولكن لا يجوز التدخل فيما لا يعنينا خصوصا حين يطلب منا البقاء جانبا وعدم التدخل. ومن المهم جدا أن نحترم حرية الآخر ورغبته في المحافظة على المسافة التي تفصله عنا مهما كنا نعتبره صديقا عزيزا مقربا وحميما. والحق يقال: إن الفضول الذي لا يكون في محله لا يلحق الأذى بالغير فقط بل أيضا بصاحبه. إذ يقول المثل: "من راقب الناس مات غما" وأيضا "من تدخل بما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه". قال سقراط: اعرف نفسك. هل حاولتِ يوما أن تحللي مشاعرك وأفكارك وردات فعلك وتصرفاتك في مختلف الظروف؟ هل تساءلتِ مرة من أنا؟ من أكون؟ الجارة القرعاجية مسببة الفتنة ومن ضحايا التقرعيج..صارة متزوجة حديثا والتي قالت "لدينا جارة تدس أنفها في كل شيء، وتتدخل في شؤون الجيران، لمعرفة ما يدور خلف الأبواب المغلقة من خفايا وأسرار، وبخاصة فيما يتعلق بالحياة الزوجية، والعمل على نشرها بين الناس، غير آبهة بما سوف يحدث من مشكلات، وما قد يتسبب بحدوث شرخ داخل المجتمع، وأنا أحاول دائما أجتنبها، إلا أنني وقعت ضحية لها ، حيث في بداية زواجي، اضطر زوجي إلى السفر شهورا في مهمة عمل، فذهبت لقضاء هذه الفترة عند أمي في بيتها إلى حين عودة زوجي من السفر، لكن الجيران بدءوا ينظرون إلي نظرة شفقة، ويظهرون الحسرة، وفهمت بعد ذلك أنهم اعتقدوا أنني جئت للمبيت مع أمي، لأنني تركت البيت، ولأن زوجي يريد أن يطلقني، سألتني تلك الجارة "القرعاجية" : لماذا حدثت مشاكل بينك وبين زوجك في بداية الزواج؟! وهل يود فعلا أن يطلقك؟ ومن ثم بدأت الإشاعات تنتقل من هذه إلى تلك. التكلم عن الناس ..إلى متى؟! أما سليمان تعرض من أحد الزملاء في العمل لأسئلة عن مرضه الذي يعاني منه، وهو مرض شبه خطير لكن لم يرغب في التكلم عنه أبدا وأردف قائلا أن الناس يطلبون منها تفاصيل لكنه لا تريد الإفصاح لأحد عن ذلك أو التحدث عنه كما أنها لا يريد التحدث عن نفسه بالتفاصيل التي يريدها أولئك، ويقول لا مانع لديه من السؤال فقط كيف الحال لكن دون الوصول إلى إجابات وحشرية زائدة في أمور لا تعنيه وليس من أجل تناقل الكلام والاطلاع وملئ أوقات الفراغ، والبعض لا يعرف أن هنالك حدود بينه وبين الآخر، ورغم ذلك فقد فعلها زميل لي وادعى أنني مصاب بمرض معد ما جعل المدير يفصلني عن العمل" . "التطفل" مرض وبيل وسلوك خطير ويقول م.ف أستاذ في علم النفس أن التطفل آفة من آفات النفس البشرية ومرض من أمراضها، يدفع صاحبه قسرا لاكتشاف أسرار الناس و استطلاع أحوالهم، ومن ثم الثرثرة والتحدث بها أمام كل من هب ودب مما يؤدي إلى هتك حرمات الناس وجرح كراماتهم وفضحهم والتشهير بهم، والعجيب من أمر الفضولي انه قد ينزعج من الأشخاص الذين يزجروه عن التدخل في شؤونهم أو إذا لم يجيبوا على أسئلته المزعجة، فتراه ينزعج من هذا ويعاتب ذاك ويغضب على هؤلاء ويقاطع أولئك لا لذنب ارتكبوه أو جريمة اقترفوها سوى رفضهم التطفل إدانة التدخل في شؤونهم الخاصة، فالمتطفل يعتقد خاطئا أن الفضول والتطفل حق من حقوقه وما هو إلا أمرا طبيعيا لا يستوجب كل هذه الضجة والرفض، ولا يعلم بأنه مرض وبيل وسلوك خطير يهدد استقراره واستقرار الآخرين ويعصف بالسلام والوئام ويهدم صروح السعادة الاجتماعية والحياة الشخصية .وبالنتيجة إن كتم الأسرار ومنعها عن الفضوليين، حق من حقوقنا المشروعة، لأجل صيانة شؤون الناس وحماية حياتهم الخاصة من عبث المتطفلين وتدخل الفضوليين الذين يندفعون كالسيل الجارف الذي يحطم كل سدود الخصوصيات و أسوار الشؤون الشخصية كي ينتهكوها ويدخلوا حصونها ومن ثم يسحقوها بأقدامهم ، فهؤلاء لهم رغبات عجيبة و دوافع غريبة تدفعهم قسرا لاقتحام حياة الآخرين واستطلاع أحوالهم واكتشاف أسرارهم، لذا لابد من الابتعاد عنهم ووضع حدود للعلاقات معهم كلما سنحت الفرصة لذلك. الشهيد السعيد من ترك الفضول وهجر التطفل وقد استفاضت النصوص الدينية بالتحذير من هذه الظاهرة السلبية و زجرت مرتكبها ونهت عنها و وبخت صاحبها و توعدته بالعقاب ، وهذه نبذة منها : فقد روي : (( أنه استشهد يوم أحد غلام من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و وجد على بطنه حجر مربوط من الجوع ، فمسحت أمه التراب عن وجهه ، وقالت : هنيئا لك الجنة يا بني !فقال النبي صلى الله عليه و سلم : وما يدريك ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ، نفهم من هذا النص إن مفهوم الشهادة في سبيل الله والحصول على ثوابه الجزيل لا يتحقق مع الاتصاف بالفضول ، فالفضيلة ضد للرذيلة والضدان لا يجتمعان كما قيل قديما ، إذ أن الشهيد السعيد من ترك الفضول وهجر التطفل ، والخاسر والفاشل من أتصف بهما وان جاء إلى الله مضرجا بدمائه !!وأيضا جاء عن الإمام علي رضي الله عنه ما يؤكد ذلك : (( من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم )) الكرم من أرقى المفاهيم ومن أفضل القيم ، الكريم رجل جميل ، وأجمل ما فيه غض الطرف عن عورات الناس والتغافل عن عيوبهم وترك تتبعها ، إما اللئيم فهو الذي يتجسس على الناس وينشر أخبارهم ويذيع مساوئهم ويتكلم عن عيوبهم ، إذ أن المعلومة عنده كالرصاصة يوجهها إلى صدور الناس المسالمين ، بل إن الفضول والتدخل في شؤون الغير أشد فتكا من حر الرصاص وبطش السيوف ، فما أكثر الهلكى بسبب الفضول والتدخل فيما لا يعنيهم ، ولا عجب في ذلك إذ أن الفضول أس الشرور وجذر الأضرار ومفتاح المشاكل وأم الرذائل فكأن الفضول أصل والرذائل فروع له ، بل هو جوهر الرذيلة نفسها ، وإنما يأتي في أشكال مختلفة ويتمثل في صور متنوعة.