أخطأته جائزة نوبل للآداب عدة مرات، رغم أن كلّ شيء يؤهله لنيلها. فهو كشاعر دخل نادي الكلاسيكيين وهو على قيد الحياة، بل أن البعض يعتبره ''الوريث الشرعي'' لبوشكين. اشتهر في الغرب قبل سولجنيتسين، وأمسياته الشعرية يحضرها في ملاعب كرة القدم أكثر من ثلاثين ألف شخص. في شعره، كما في طريقة إلقائه، تطابق مثير للدهشة بين رهافة الأحاسيس وصخب الكلمات. والشاعر عنده أكثر من شاعر، لكنه يرفض أن يتحوّل الشعر إلى وسيلة تحريض عارية، لأن الحياة في رأيه أسمى وأرقى من السياسة. أما نثره فيتدفق كأنهار مسقط رأسه سيبيريا. هذا عنه كمبدع. أما مواقفه السياسية، فقد بدأت تتبلور في الستينيات، وتحوّل مع مرور الوقت إلى رمز لجيل ''ذوبان الجليد'' بعد موت ستالين. كان من الأصوات القليلة التي انبرت للدفاع عن الحريات الفردية في الاتحاد السوفييتي سابقا، وكلّفه ذلك الطرد من معهد غوركي العريق. وقّع مع جون بول سارتر وآنا أخمادولينا عريضة تدين محاكمة صديقه الشاعر برودسكي الذي حاز جائرة نوبل بعد هجرته إلى أمريكا. وقف ضد تدخل الجيش السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا والقمع في الشيشان. وكان فوق ذلك كلّه صديقا لكبار هذا العالم من سياسيين (كاسترو، أليندي، كنيدي...) وأدباء(نيرودا، ناظم حكمت، أراغون، محمود درويش...). كلّ هذه الهالة من الشهرة لم تشفع له عند الغرب لنيل جائزة نوبل. إنه الشاعر والروائي والمسرحي والسيناريست والمخرج السينمائي يفغيني يفتوشنكو، أو كناري أرض الشمال، كما يسّميه سميح القاسم. يفتوشينكو لا يطيق البقاء في مكان واحد، وكلّ شيء في العالم يهّمه، ولو أتيح له، كما قال لي، أن يقسّم نفسه إلى يفتوشينكوات لفعل: واحد يسبح في أنهار سيبيريا، وآخر يعلّم الأقزام، وثالث يبني، ورابع آخر إمراة حامل تهب الحياة. زار أكثر من 90 بلدا، ولم يلق عصا الترحال إلى اليوم. تعرّف على الجزائر في الستينيات في باريس، وكتب عنها قصيدة ''علامة تعجب''. فقد رأى شابين جزائريين، أحدهما يحمل الآخر على كتفيه، والثاني يحاول أن يرسم علامة تعجب على الجدار، فرسمها يفتوشينكو بدله لأنه طويل القامة (متران). وكان له في الجزائر أصدقاء، منهم جمال عمراني وجون سيناك. قبل أحداث أكتوبر بقليل زار الجزائر ضمن رحلة قادته إلى بلدان المغرب العربي. كان ذلك زمن البريسترويكا، وزمن ارهاصات التغيير في الجزائر. وكان لي شرف مرافقته مترجما ومحاورا ونديما. في وهران وقع سوء فهم، لأن المسؤولين فهموا أن يفتوشينكو مبعوث خاص لغورباتشيف. وأولوا الزيارة من البروتوكول ما أفسد على مثقفي المدينة حرارة اللقاء وفيض المشاعر وتلقائية التحاور. وحدثت خلال الرحلة أمور طريفة عجيبة يضيق المقام عن ذكرها هنا. وعاد يفتوشينكو مبهورا مفتونا بجمال الجزائر، وقال لي: ''بعض ما رأيت هو، حقا، مشاهد إنجيلية، وبلدكم هبة من الله''. عشية سفره نظّم له اتحاد الكتاب جلسة مع الأدباء الجزائريين، وتدخل أحدهم وكان يحمل في يده ديوان شعر سميح القاسم. وقبل أن يسترسل في سؤاله أوقفه يفتوشينكو، وفهم قصده من دون ترجمة. والحكاية هي أن يفتوشينكو كتب في 1961 قصيدة مشهورة بعنوان ''بابي يار'' حوّلها الموسيقار الشهير شيسطاكوفيتش إلى سمفونية. في هذه القصيدة يدين الشاعر التضليل الاعلامي السوفييتي بخصوص مجزرة تعرّض لها اليهود سنة 1941 في كييف ومعاداة السامية في بلده. بعد سنوات ردّ عليه سميح القاسم بقصيدة جميلة بعنوان ''رسالة قد تصل إلى الشاعر السوفييتي''. من ضمن ما قاله سميج ''ظل بابي يار ندعوه لدينا دير ياسين، ظل بابي يار ندعوه لدينا كفر قاسم، ونسمي ظل بابي يار سموع، ولدينا مثلكم حزن، وغيظ، ودموع''. وهي دعوة صريحة ليفتيشنكو للالتفات إلى القضية الفلسطينية واللاجئين ومجازر اليهود. وكان جواب يفتوشينكو عن سؤال الأديب الجزائري: ''أنتم العرب لا تحسنون شرح قضاياكم، حدّثونا عن أنفسكم''. وهو نفس الجواب تقريبا قاله يفتوشينكو في حوار أجرته معه عائدة مطرحي إدريس، ونشر في ''الآداب'' البيروتية ''أنا لا أعرف الحقيقة عن القضية الفلسطينية ومأساة اللاجئين''. صبيحة سفره نظّم له لقاء مع أساتذة وطلبة جامعة الجزائر، تألق فيه بقراءة قصائد ''بين مدينة نعم ومدينة لا'' و''ضد الشهرة'' و''محاولتي الأخيرة لأن أكون سعيدا''. وحاور الحضور بنبرة صريحة ومذهلة في آن واحد. رافقته أنا وأحمد حمدي إلى المطار، واشترينا له بعض الهدايا لتذّكره بالجزائر، وأهداني هو آخر ديوان أشعاره، وكتب عليه بتوقيعه ''إلى الملاك التي صانني في الجزائر''.