رأى كثيرون بأن تتويج هيرتا ميلر بجائزة نوبل للآداب هذه السنة، جاء ليعيد الاعتبار للشعر بعد سنوات من الغياب والتهميش، بالنظر إلى سيطرة الرواية على هذه الجائزة وغيرها من الجوائز العالمية، وهو ما يستحق برأيي قراءة خاصة عن موقع الشعر في العالم اليوم، لأكثر من سبب•• من ذلك أن هذه الشاعرة كان مفاجأة لمعظم المتتبعين، وهناك من الشعراء العالميين من هوأكثر حضورا، ومن هو أكثر تمثيلا للشعر منها• وبالنظر إلى حيثيات التتويج، وما جاء في بيان لجنة نوبل نجد أنه يشير إلى الكثافة ''الشعرية وجرأة النثر والتعبير عن المقموعين'' في كتابتها، مما يشي بأن الشعر لم يكن المتوّج الوحيد في شخص هيرتا ميلر بل هناك جانبان آخران هما الروائية وصاحبة القضية•• ولذلك من الخطأ الاعتقاد بأن في هذا تثمينا للشعر كفن، بقدر ما هو للشعر كقيمة أصبحت متاحة في كل شيء•• ربما تكون اللغة هي أغلى ميراث يمتلكه الشاعر، بما هي كلام خاص يتيح نوعا من التعاطي الخاص معها لا يكون تعاطيا براغماتيا كما في الكثير من الخطابات الأخرى، حيث تستخدم أكثر ما تستخدم للتبليغ كأهم وظيفة تقوم بها، بينما الأمر مختلف مع الشعر حيث تكون اللغة وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها يعمل الشاعر على تفجير قدراتها الإيحائية والإنزياحية لكي تفيض عن وظيفتها التبليغية، إلى وظيفة جمالية إن صح التعبير• إن الاختلاف الوحيد في رأيي بين الشعر والرواية هو أنك لا تستطيع أن تكون شاعرا إذا لم تمتلك ناصية اللغة، بينما تستطيع أن تكون روائيا بقليل من الاجتهاد والمثابرة• بغض النظر عن مستواك اللغوي، وأنا هنا أتحدث عن المستوى اللغوي كما ترسخ في موروثنا من إلمام باللغة ونحوها وتركيبها وإطلاع على متونها ومدوناتها• إن أهم خصيصة يتميز بها الشعر هي قدرته على التعبير عن الحالات الجوانية بوساطة لغة مكثفة أكثر ما تكون قريبة من المطلق والتجريد، وتعتمد على الرمز أكثر ما تعتمد على الإسهاب اللغوي • انطلاقا من تجربتي الشخصية مع ''عتبات المتاهة'' التي كانت أول تجربة أخوضها في الكتابة الروائية، يمكنني القول إنني عانيت بعض الشيء مع اللغة لأنني تعودت على الاقتصاد اللغوي في الشعر، وكنت أسعى إلى شعرنة الوقائع والمواقف والحالات التي تتطلب لغة سردية من نوع خاص• وإذا كان الشعر هو فن المفردة والجملة والعبارة والحالة، فإن الرواية هي فن البناء والسرد والصبر• ولذلك من الخطأ أن يذهب الشاعر إلى الرواية بموروثه وأدواته ورؤيته الشعرية ولغته ونرجسيته، لأنه سيكتشف أن كل ذلك غير مفيد، بل سيحيد بعمله عن الفن الروائي الحقيقي• الشعر فن الصوت المفرد، بينما الرواية هي أصوات متعددة وشخوص كثيرة تتفاعل فيما بينها لتشكل النسيج الروائي• والذي يحدث هو أن الشاعر وهو يكتب الرواية من غير وعي منه سيعمل على قمع كل الأصوات وكل الشخوص لحساب لغته التي تعبر عن أناه• وبالجملة هناك فن الشعر، حتى وإن اختلفنا في تحديد ماهيته وأشكاله، لا سيما وأنه تعرض لبعض التحولات عبر تاريخه •أما فن الرواية فيكاد يكون هو نفسه في كل العالم ، ولا يختلف عليه اثنان •أما الرواية الشعرية فهي مصطلح أتحفظ عليه شخصيا، ولا أعلم إن كان يصح القول به• و أنا حين كتبت تجربتي ''عتبات المتاهة'' بعد تجربة طويلة مع الشعر كنت أرغب في الانخراط في عالم الرواية، وليس التأسيس لجنس ثالث اسمه الرواية الشعرية• مع كل هذا، هناك حقائق كثيرة لا يجب أن أقفز عليها، وهي أن السرد موجود في الشعر، بل وقد يكون سر نجاحه وقوة تأثيره• كما أن هناك شعرية في السرد، بل وقد تكون سر نجاحه وحضوره القوي، فمن يستطيع أن ينكر أن رائعة ''نجمة''، وهي أهم رواية في تاريخ الأدب الجزائري• كتبها كاتب ياسين الشاعر، وفيها من الشعرية الشيء الكثير، ومن يستطيع إنكار وجود الشعرية في رواية ''ذاكرة الجسد'' لأحلام مستغانمي• ولذلك فإن الشعر كقيمة جمالية وكمعنى، وليس كلغة وكشكل من أشكال التعبير، موجود في الكثير من الفنون والأشكال التعبيرية، كالمسرح والسينما والتشكيل، بما فيها الرواية• وهذا ربما ما يفسر في رأيي انحسار مقروئية الشعر كشكل تعبيري لحساب الأشكال الأخرى• وهذا الأمر بقدر ما هو مؤسف بقدر ما يؤشر إلى قدرة الشعر وجوهره وسحره على التأثير، ولأن يكون مناط رهان في أكثر من فن•• وكأني بالشاعر لم يعد الوحيد القادر على الحياة في الشعر، بل أصبح الجميع يتوقون إلى عناقه والانخراط فيه• وكمحصلة، أميل إلى القول إن تتويج الشاعرة هيرتا ميلر كان تتويجا خجولا ومترددا للشعر والشعراء، كما يبدو أن التاريخ مصر على المضي في انتقامه من الشعر والشعراء، عبر نوبل وسواها من خلال نزع القداسة عن موروثه المتعالي وتقاليده الباذخة ، وبتوزيع دمه على الجميع، وعلى كل الفنون وأشكال التعبير المتاحة• وذاك حديث آخر• fr• Hachimite5@yahoo