قال الله تعالى: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} النساء .131 بالأمس القريب كنتم في شهر رمضان المبارك، شهر الرّحمة والمغفرة والعِتق من النّار، تصومون نهاره وتقومون ليله، وتتقرّبون إلى ربّكم بأنواع القُربات، طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه. ثمّ انتهت تلك الأيّام الفاضلة واللّيالي المباركة، وقطعتم بها مرحلةً من حياتكم لن تعود إليكم أبداً، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خيرٍ أو شرّ. قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} الزلزلة 7 .8 لقد انقسم النّاس بعد رمضان إلى أقسام: الصنف الأول: قوم كانوا على خير وطاعة، فلمّا جاء رمضان شمّروا عن سواعدهم، وضاعفوا من جهدهم وجعلوا رمضان غنيمة ربّانية ومنحة إلهية، استكثروا من الخيرات، وتعرّضوا للرّحمات، وتداركوا ما فات، فلعلّه أن تكون قد أصابتهم نفحة من النّفحات. فما انقضى رمضان إلاّ وقد حصلوا زاداً عظيماً، علَت رتبتهم عند الله، وزادت درجتهم في الجنّات، وابتعدوا عن النيران. الصنف الثاني: قوم كانوا قبل رمضان في غفلة وسهو ولعب، فلمّا أقبل رمضان أقبلوا على الطاعة والعبادة، صاموا وقاموا، قرأوا القرآن وتصدّقوا ودمعت عيونهم وخشعت قلوبهم، ولكن ما أن ولّى رمضان حتّى عادوا إلى ما كانوا عليه، عادوا إلى غفلتهم، عادوا إلى ذنوبهم. فمَن كان يعبد رمضان فإن رمضان قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وأن الّذي أمرك بالعبادة في رمضان هو الّذي أمرك بها في غير رمضان. الصنف الثالث: قوم دخل رمضان وخرج رمضان وحالهم كحالهم، لم يتغيّر منهم شيء، ولم يتبدّل منهم أمر، بل ربّما زادت آثامهم، وعظمت ذنوبهم، واسودّت صحائفهم، وزادت رقابهم إلى النّار غلا. هؤلاء هم الخاسرون حقًا. عاشوا عيشة البهائم، لم يعرفوا لماذا خلقوا عوض أن يعرفوا قدر رمضان وحرمته، ولقد سمعت والله أحدهم يتبجّح ويجاهر بالفطر في نهار رمضان. فهؤلاء ليس من حيلة معهم إلاّ أن ندعوهم إلى التوبة النصوح، التوبة الصادقة، ومن تاب، تاب الله عليه. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لو أن أحدكم أراد سَفَراً، أليس يتّخذ من الزاد ما يصلحه؟ قالوا: بلى. قال: سفر يوم القيامة أبعد، فخُذُوا ما يُصلحكم، حجُّوا لعظائم الأمور. صوموا يوماً شديد حرّه لحرّ يوم النُّشور. صلّوا ركعتين في ظلمة اللّيل لظلمة القبور. تصدّقوا بالسرِّ ليوم قد عسر). وقال الحسن البصري رضي الله عنه: (إنّ الله جعل رمضان مضمار لخلقه، يتسابقون فيه بطاعته فسبق قوم ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الّذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون).