حينما تغيب الحقيقة يسود الظلام، وحينما يسود التدليس والغش في كافة المعاملات نجد أنفسنا حتما في ذيل الأمم. هذه الحقيقة نراها كل يوم ماثلة أمامنا في مشاهد مأساوية، يشارك في صناعتها الجميع تقريبا، إما صامتا عن الحق أو مشاركا ومتواطئا، في ممارسات أقل ما يقال عنها إنها نفاق وكذب على الذقون. حينما نجد المسؤول، من القاعدة إلى القمة، يلجأ إلى الحلول الترقيعية، حينما يتراءى إلى مسامعه بأن المسؤول الأكبر منه سيقوم بزيارات تفقدية ''مفاجئة ''، أو سيحضر لعملية التدشين، ويشرع في سباق مع الزمن لصناعة واجهة ترضي الجميع، وتشعرهم بأن كل شيء على ما يرام، فتلك هي النكسة الكبرى التي أعادتنا إلى تقاليد بالية سادت في زمن ولى وانقضى، ولكنه يعاد إنتاجه مرارا وتكرارا، على مرمى ومسمع من الجميع. حينما يأتي المسؤول فإن الطرقات تنظف وتعبد، وحينما يأتي المسؤول تصلح الأرصفة، والإنارة تتوفر، والجدران يكسوها الطلاء. إنها الواجهة التي تخفي من ورائها المآسي والمشاكل، والتي تغيّب الحقيقة لحين رحيل المسؤول، ليعود الحال كما كان، لأن المواطن ودافع الضرائب، في عرف هؤلاء المسؤولين، لا يساوي شيئا، والمهم رضا المسؤول، ثم فليذهب الجميع إلى الجحيم. إنها عقلية التعالي والاحتقار التي تظل سائدة والتي كانت من نتائجها كمحصلة تباعد القاعدة عن قمة الهرم، وابتعاد هذه القمة عن واقع الحال، والأخطر من ذلك أن نرتب في معظم التصنيفات الدولية في ذيل الأمم، ففي تصنيف ''دي ايكونوميت'' و''ميرسير'' الجزائر العاصمة من أسوء المدن، وللمفارقة نفس المدينة التي تحصلت عام 1958 على جائزة ليما كإحدى أفضل المدن في المتوسط، أضحت مع سيادة منطق أريفة المدن، من أسوء المدن، كما أن البنك العالمي يصنف الجزائر ضمن الدول الأقل استقطابا للاستثمار، ومن أصعب مناخات الأعمال والاستثمار بفعل سيادة مركزية القرارات والبيروقراطية الإدارية البالية وعقلية الوصاية، ولكن حسب منطق ''كما تكونوا يولى عليكم ''، وحسب مقولة الكونت جوزيف دو ماستر، السياسي والفيلسوف الايطالي، في رسالته للكونت راسمونوفسكي، ''كل أمة لها الحكومة التي تستحقها''. فإن الكل مسؤول عن وضعية مزرية، وعن الرداءة التي تعيد إنتاج نفسها على جميع المستويات، وبدلا من الاعتراف بالأخطاء وتصحيحها، فإننا نكررها تباعا، وعلى حد قول ألبير كامو من الأفضل أن تكون الأمة قوية بتقاليدها وشرفها إلى حد تجد فيها الشجاعة لشجب أخطائها. ولكنه وهم العظمة الزائفة، واختزال العالم في الذات، وإنكار الحقيقة، ومن يبقى في مكانه جامدا، يجتر مآثر الماضي، سيتخلف عن الركب حتما، لنظل دائما في ذيل الأمم. وكما قال رابع الخلفاء الراشدين يوما ليس الفتى من قال كان أبي، ولكن الفتى من قال ها أنا ذا. [email protected]