يصف عمال مناجم تبسة بمدينتي الونزة وبوخضرة ''المنيري''، معاناتهم مع الشراكة الأجنبية بقمة الاستغلال، وبأن ''العصر الذهبي'' لمهنتهم قد ولى وانقضى مع الرئيس الراحل هواري بومدين، فالأمراض الفتاكة من السليكوز والسرطان وفقدان السمع تطاردهم إلى ما بعد التقاعد.. خطر آخر يهدّد ال28 ألف عامل يشتغلون في مختلف المناجم، والمتمثل في انعدام معايير الأمن والحماية لهم، والتي تسببت خلال السنة الماضية في وفاة 13 عاملا و400 جريح في حوادث مختلفة. القطاع يشغل أكثر من 28 ألفا أغلبهم عند الخواص نصف عدد عمال المناجم عرضة لأمراض السليكوز والسرطان ونقص السمع كشفت آخر إحصائيات رسمية أن عدد العاملين في القطاع المنجمي يبلغ حاليا 28858 عامل، 59 بالمائة منهم يشتغلون في القطاع الخاص، أو ما يمثل 17106 عامل. وأضافت ذات الإحصائيات أن العدد الإجمالي من العمال المنجميين يتوزعون على المناجم المتواجدة في 5 ولايات بالوطن، وأكثرهم يتواجد في تبسة ب3148 ثم سطيف ب1774 عامل ثم قسنطينة ب1706 عامل ثم بومرداس ب1374 عامل ثم عين الدفلى ب1136 عامل والبيض ب37 عاملا. وأكدت دراسات ومعاينات حديثة أن المئات من العمال يتعرّضون سنويا لعدة أمراض مزمنة، بسبب الانفجارات التي يعتمدون عليها لتفتيت الصخور وتحويلها إلى أتربة. وفي هذا السياق، ذكر السيد عماري بشير، رئيس جمعية ''الشروق'' المهتمة بالبيئة في الونزة بتبسة، أن المعاينة الطبية الأولية لا تكشف عن مادة السيليس بالمجاري التنفسية للعمال، حتى ولو وصلت إلى نسبة 50 بالمائة، ما يهدّد حياة العمال ويجعلهم عرضة للإصابة بالسيليكوز مع مرور الوقت. من جهته، قال الدكتور زرفاوي مسعود، مختص في الأمراض التنفسية والربو، إن عمال المناجم في صدارة المترددين على العيادات الطبية المتخصصة، فمرض السليكوز الذي يمكن أن نفسره بالتخريب التدريجي للنسيج الخلوي للرئتين، تتسبب فيه عناصر الأتربة المتطايرة بالمناجم. وكأطباء، فإننا نحاول بكل ما أوتينا من إمكانيات تسيير هذا المرض الذي يطارد المنجميين إلى ما بعد 5 سنوات من سن التقاعد، ويمكن أن يعرف المصاب مضاعفات خطيرة تقوده إلى مرحلة ميؤوس منها، فهو معرض للإصابة بسرطان الرئة، إضافة إلى أمراض الحساسية وصعوبة التنفس. وتحدث مختصون آخرون عن أن هذه الفئة من العمال معرضة للإصابة بفقدان السمع تدريجيا، على خلفية تعرض أعضاء الأذن الداخلية لصدمات متفجرات الصخور. وما زاد من معاناتهم العجز عن التكفل بالفحوصات الطبية، بسبب انخفاض نسب التكفل من طرف صندوق الضمان الاجتماعي.
الرئيس الراحل كان حريصا على استفادة العمال من التكنولوجيا أطول خط ناقل للمعادن في العالم بالونزة الحديث مع عمال المناجم، خاصة القدامى، يجرك حتما إلى العودة إلى سنوات الستينيات والسبعينيات، عندما كان الرئيس الراحل هواري بومدين يولي أهمية كبرى للثروات الباطنية التي كانت ولازالت تزخر بها الجزائر، وكذا للعمال الذين يسهرون على استخراجها في ظروف جد قاسية. وقد روى لنا عمال بعض التفاصيل من هذا ''المجد الضائع'' بالقول: ''...في ماي سنة 1966 دشن الرئيس الراحل هواري بومدين الشريط الناقل للصخور المستخرجة من عمق الشنغورة، وهو الجبل المحتضن لمادة الحديد، إثر تأميم المناجم. وقد حرص الرئيس الراحل شخصيا على أن تكون التكنولوجية المستخدمة في منجم الونزة جد متطورة. وبالفعل، كان آنذاك يتمتع بجميع المقاييس العالمية المتطورة ويعمل آليا، وقد كان الشريط الناقل على مسافة 5 كلم، وبذلك سجل كأطول خط ناقل في العالم في مناجم المعادن المستخرجة من باطن الأرض''. لكن اليوم، يضيف العمال، تغاضى الجميع عن تجديد كل المعدات والتجهيزات، بحجة الشراكة لرفع مستوى الاستغلال والفعالية، لتكرّس وضعية الرغبة الجامحة في استنزاف الاحتياطي من منجم الحديد بأقل التكاليف، وتعمد من الجهات الوصية إهمال تجديد المعدات والتجهيزات، فأغلبها يعود إلى السنوات الأولى من الاستقلال. وبالرغم من تعاقب عدد كبير من المجالس البلدية المنتخبة على بلدية الونزة التي تحتضن أكبر مناجم الحديد في العالم، إلا أنها لم تستطع مواجهة ''ظلم'' الشراكة الأجنبية للعمال وللمنطقة ككل.
شاهد من أهلها ''12 ساعة عمل في اليوم مقابل 25 ألف دينار'' يكابد عمال منجم الونزة بتبسة شتى أنواع المصاعب والمتاعب خلال تأدية أعمالهم المختلفة الشاقة ،مقابل أجر زهيد. وأكد السيد زيتوني لزهر، وهو عامل كهربائي بالمحجرة المخصصة لتحويل الصخور الخام إلى الحجم المطلوب لتكون سهلة الانصهار بأفران مركب الحجار بعنابة، في تصريح ل''الخبر''، أنه وزملاءه ''يعانون يوميا من الأخطار القاتلة، لاسيما تلك التي يتسبب فيها الغبار المتطاير، والذي يحمل سموما مختلفة تؤثر على صحة العمال، خاصة أن الشركة ظلت تتغاضى عن تبني مخطط للرش يحترم المقاييس المطلوبة عالميا، للمحافظة على البيئة والمحيط وصحة البشر، قصد التخفيف من حدة أضرار الغبار الذي يلاحقنا على مسافات طويلة''. وأضاف المتحدث أن هذا المجهود الكبير ''يقابله أجر زهيد جدا، خاصة أن فترة عمل تتراوح بين 8 و12 ساعة يقابلها أجر لا يتجاوز 25 ألف دينار شهريا، مما يثبط عزيمتنا كثيرا''. ويضيف زيتوني أنه يكاد لا يرى أبناءه من كثرة ضغط العمل، فنقص عدد العمال بعد تسريح الكثير منهم أثر سلبا على العمل، كما أن الأعطاب المتكررة التي تصيب الآلات المستعملة في استغلال المنجم التي لم تجدد منذ عشرات السنين، تزيد من صعوبة العمل.
بورتري
''عمي'' لسود يسترجع ذكريات 40 سنة من العمل ''دخول الأجانب أفسد المهنة'' تنفس عمي لسود يحيى، إطار تقني، بعمق شديد وهو يسترجع مسيرة عمله التي امتدت 40 عاما بمنجم الونزة، تحت وطأة دوي المتفجرات وغمامات الغبار التي لا تنقطع، حيث كان يعرف المنجم إلى غاية 1966 باسم شركة مناجم الونزة. وشهدت المنطقة آنذاك ازدهارا وتطورا في جميع الميادين، حيث كان عدد العمال يتجاوز 3 آلاف عامل، برواتب جيدة وظروف حياة ممتازة، فقد كانوا يستفيدون من امتيازات السكن، مجانية الإيجار والكهرباء والماء، كما أنجزت الشركة على عاتقها المستشفى والمحلات والحدائق العامة والمساحات الخضراء. وكانت الشركة مسؤولة عن كل التشققات بالمنازل، حيث تقوم بترميم السكنات ودهنها دوريا، وترفع النفايات، وكانت المتابعة حتى في الجانب الرياضي والترفيهي، وكل ما يهم المواطن كان من أولويات الشركة. ويتحسر عمي لسود يحيى في نظرته كثيرا، ثم يواصل كلامه: ''في أيامنا هذه، لاسيما مع قدوم الشراكة الأجنبية منذ سنة 2001، فإن جميع الأمور انقلبت رأسا على عقب، فتقلص عدد العمال، وسرح منهم 2500 عامل، وأهملت المساحات الخضراء، وأغلق عدد كبير من المنشآت. كما استغل بعضها لأغراض شخصية، وهضم حق العامل على جميع الأصعدة''.
بسبب انعدام معايير الأمن والحماية للعمال 13 قتيلا و400 جريح السنة الماضية في مناجم الجزائر كشفت مصالح الوكالة الوطنية للجيولوجيا والمراقبة المنجمية عن هلاك 13 عاملا وإصابة ما لا يقل عن 385 آخر، السنة الماضية، من الفئة الشغيلة بقطاع المناجم عبر التراب الوطني، في حوادث باتت تتهدّد عمال هذا القطاع بمؤشر وخيم، ما لم يسارع المستغلّون إلى تفعيل إجراءات الحماية اللازمة. وحذّر إطارات من الوكالة، خلال لقاء جهوي احتضنته دار الثقافة عبد المجيد الشافعي بفالمة مؤخرا وضم مستثمرين ومستغلين منجميين، بأن العديد من المناجم والمحاجر النشطة عبر التراب الوطني تفتقر إلى أدنى معايير الأمن والحماية لضمان سلامة العمال، وهذا برغم إصدارها، أي الوكالة، للعديد من قرارات الغلق والإعذارات والإنذارات للمخالفين لقواعد الأمن والسلامة من المتعاملين. وفضحت صور عرضتها الوكالة واقع عمال المناجم، من خلال خرق المستثمرين لقواعد الأمن والسلامة، حيث كشفت عن عمال يزاولون عملهم دون خوذات أمن رأسية، ولا قفازات ولا أحذية ولا نظارات مضادة للغبار، وغيرها من اللوازم المشترطة في النشاط المنجمي، السطحي منه أو الباطني، والذي يشغّل قرابة 28 ألف عامل عبر المواقع المنجمية للوطن.