قضينا مدّة تزيد عن الساعة انطلاقا من مدينة تلمسان باتجاه قرية العابد الحدودية مرورا بعدة محطات أبرزها: تيرني، سبدو، سيدي الجيلال عبر طريق تحسنت وضعيته بكثير مقارنة بما كان عليه منذ حوالي عامين خاصة على مستوى المحور الرابط ما بين سبدو والعابد أول ما يظهرلك عند بلوغ مشارف هذه القرية هي آبارها المنجمية الثلاثة التي تحيط بها من ثلاث جهات غربا وشمالا وشرقا، هذه الآبار الثلاثة هي في الواقع امتدادا لبئرين آخرين يوجدان بالتراب المغربي حيث تفيد المعلومات الموجودة بحوزتنا أن الشركة الفرنسية »الزليجة« كانت اقامتهما بالأراضي المغربية لتنتقل الى ترابنا الوطني وتقيم بئرين آخرين في سنة 1948. أما البئر الثالثة فقد أنشأتها شركة كندية سنوات بعد الإستقلال. يذكر أن الآبار الثلاثة تستخرج منها مادتي الزنك والرصاص حيث ظلت الشركة الفرنسية تستخرج منها هذه المادة على شكل صخور ثم تقوم بنقلها إلى المغرب أين يتم طحنها وتصدير ما إلى الخارج وذلك الى غاية السادس من شهر ماي سنة 1966 تاريخ تأميم المناجم بقرار من الرئيس الراحل هواري بومدين وتصبح الشركة الوطنية للأبحاث والإستغلالات المنجمية »سوناريم« هي المالك الوحيد لهذه الثروة الباطنية ومنذ ذلك التاريخ شهدت هذه الوحدة المنجمية ازدهارا ملحوظا عادت آثاره الإيجابية على القرية ككل خاصة بعد فتح المجال أمام اليد العاملة الجزائرية التي قصدتها من كل حدب وصوب ومن جميع جهات الوطن شرقها وغربها، شمالها وجنوبها وحتى من خارج الوطن باستقدام اليد الأجنبية المختصة خاصة من دول المعسكر الإشتراكي آنذاك (الإتحاد السوفياتي، المجر، بولونيا) ليصل عدد العمال وقتها إلى قرابة ال 1000 عامل فشكلوا مجتمعا متجانسا ومتآلفا لم تفرق بين أفراده لا العادات ولا الديانات لهؤلاء القادمين من وراء البحر. * عجز إينوف وما ساعد ذلك الترابط هو اقحام ذات الوحدة المنجمية على انجاز سكنات وظيفية لكل عائلات العمال في منطقة واحدة ولو أنها كانت كلها من البناء الجاهز واستمر الوضع على حاله الى غاية صدور قانون اعادة هيكلة المؤسسات خلال سنوات الثمانينيات فعادت ملكية هذا المنجم إلى مؤسسة »ENOF« لكن وبمرور الوقت ونتيجة التحولات الإقتصادية على المستوى العالمي بدأ العجز يتسرب الى هذه الوحدة الإقتصادية ومن يوم لآخر أصبحت عاجزة على الموازنة مابين المداخيل والمهاريين فكان لزاما على مسيريها اتخاذ اجراءات فورية لانقاذها من الافلاس فجاءت البداية بتقليص عدد العمال وذلك عن طريق استخلاف المحالين على التقاعد مع فتح المجال أمام من يريد الذهاب الطوعي وصولا إلى تسريح كل العمال المتعاقدين فشهد عدد العمال نزيفا حادا فتقلص ليصل الى حدود ال 100 عامل وذلك بداية من الألفية الثالثة لتتفاقم الأوضاع أكثر ويتوقف المنجم عن الإنتاج كلية ويتم الإحتفاظ بحوالي 70 عاملا حوّلوا كلهم الى حراسة ممتلكات الوحدة. * 40 عاملا ماتوا مردومين يذكر أن السنوات الذهبية للمنجم لم تمر دون أن تترك بعض الآثار السلبية على أسر بعض العمال خلفت الحوادث المهنية منذ سنة 1966 الى غاية الألفية الجديدة أكثر من أربعين متوفيا كانت وفياتهم كلها ناتجة عن انهيارات صخرية عليهم أثناء تأدية مهامهم وهنا تجدر الإشارة الى أن العمل بمنجم العابد يجبر العمال الى النزول الى أعماق تحت الأرض تتعدى ال 300 متر الآثار السلبية هذه لم تكن لتمس العائلات التي فقدت ذويها بل أن أغلب العمال يعانون من أمراض مهنية يأتي على رأسها مرض »السيليكوز« وهو مرض صدري ينجم عن استنشاق الإنسان لغبار المعادن خاصة وأن ذلك يكون في أماكن تكثر بها الرطوبة طالما أنها تحت الأرض ثم يأتي بعدها مرض الصمم والذي أصاب العمال الذين كانوا يشتغلون أمام آلات ضخمة تصدر أصواتا عالية تضم الآذان وصولا إلى أمراض جلدية وكذا الحساسية. لايزال العمال الذين مرّوا بهذه الوحدة المنجمية وهم الآن في حالة تقاعد يتذكرون باعتزاز ذلك القرار الشجاع للرئيس الراحل هواري بومدين والقاضي بتأميم المناجم حيث يقولون أنه غداة اتخاذ هذا القرار شعرنا بأننا تحصلنا على الإستقلال للمرة الثانية بعدما تخلصنا من سيطرة الأجانب الذين كانوا ينهبون خيراتنا. موقف آخر يجسد مبدأ السيادة الوطنية لازال العمال يحتفظون به للرئيس الراحل وهو إنشاء »المغسلة« على التراب الوطني ولمعرفة ما سرّ ذلك كان علينا اللجوء الى بعض العمال القدامى الذين أخبرونا أن المعدن كان يستخرج من منجم العابد على شكل صخور ونظرا لعدم وجود المطحنة والمغسلة بهذه المنطقة كانت الشاحنات الجزائرية تضطر إلى نقله للمغرب. لطحنه ثم يصدر نحو الخارج لكن وفي سنة 1972 تم إنجاز مغسلة بجانب البئر رقم 3 وبالتالي أصبح المعدن يطحن ويغسل ويصفى بعين المكان لينقل مباشرة إلى مصنع هيتانوف بالغزوات ومنها يصدر إلى الخارج. الصينيون يرفعون التحدي عملية غلق المنجم في بداية الالفية الجديدة كان لها الوقع الكبير على حياة السكان بما أنه كان مصدر رزقهم الوحيد فاضطر العديد من أرباب العائلات الى الهروب بجلده من جحيم البطالة والانطلاق في رحلة مضنية للبحث عن شغل في جهات أخرى. أما البقية ففضلت البقاء والعيش على أمل إعادة فتحه من جديد خاصة وأن سكان هذه المنطقة يعتبرون المنجم جزءا هاما بحياتهم بدليل أن أي منزل تدخله إلا وتجد فيه قطعة معدنية بألوانها البراقة توضع للتزيين أو للذكرى ومن حسن حظ هؤلاء أن الانتظار لم يدم طويلا فتم الاتفاق بين وزارة الطاقة وشركة صينية لتقوم هذه الشركة بإعادة تفعيله من جديد وهو ما حصل فعلا حيث عمدت إلى إعادة تجديد هياكله وآلاته في حين احتفظت بنفس المنشآت الضخمة السابقة كالآبار والاروقة الموجودة بها وكذا المغسلة وهي الآن بصدد استخراج المعدن قبل البدء في عملية طحنه حيث علمنا من عين المكان أن ذلك سيكون خلال الاشهر القليلة القادمة وعلى أية حال فمجيء هذه الشركة الصينية التي أطلق عليها إسم »العابد معادن« فتح المجال من جديد أمام اليد العاملة الجزائرية إذ من بين الشروط المتفق عليها مع وزارة البطاقة هي اعطاء الاولوية للجزائريين في التشغيل وتذكر ذات المصادر أن عدد العمال بهذه الوحدة سيصل الى حوالي 400 عامل اضافة الى ذلك فستقوم هذه الشركة بموجب نفس الاتفاق دائما على إنجاز مدرسة لتكوين المنجميين بغلاف مالي يناهز 35 مليارا وهو ما سيفتح مناصب عمل جديدة ومن خلال جولتنا هذه والتحدث مع شباب المنطقة فقد تأكد لنا بأن البطالة لم يعد لها أي أثر وسط هؤلاء السكان الذين يستغلون سواء بهذه الوحدة المنجمية أو في عملية بناء مراكز حدودية خاصة بعناصر حرس الحدود والجمارك ومشاريع بنائية أخرى. مشكل البناء الجاهز إذا كان مصطلح البطالة قد انمحى من قاموس سكان القرية بشهادة الجميع ومثلما سبقت الإشارة إليه آنفا فإن مشكلا آخر يطرحه هؤلاء بحدة والمتمثل في قضية السكنات التي يقطنونها منذ أواخر الستينات والتي هي عبارة عن بناء جاهز أقامتها الشركة لفائدة عمالها لفترة معينة لكنهم بقوا به لحد الآن رغم تآكله بفعل مرور الزمن وتأثير العوامل الطبيعية لذا فقد أضحى هؤلاء يطالبون بحصص سكنية تأويهم والاسراع في توزيع سكنات الصندوق الوطني للتوفير والإحتياط والتي انتهت الاشغال بها منذ سنين لكن ونظرا لعدم توزيعها عبثت بها يد الإنسان فأصبحت عرضة للتخريب ومرتعا لكل الآفات الاجتماعية وكحل لهذه المعضلة يطالب السكان بتحويلها لسكنات اجتماعية وتوزيعها على محتاجيها. ولذا فمجال الصحة أصبح هاجسا يلاحق سكان هذه المنطقة والذي يوجد في وضعية مزرية بل تراجعت خدماته بشكل رهيب مقارنة بسنوات الألفية الماضية إذ يذكر هؤلاء أنه في السنوات الماضية كانت العيادة المتعددة الخدمات مجهزة كلية ويشتغل بها مالا يقل عن ستة أطباء يسهرون على صحة السكان علما أن هذه العيادة انجزت بواسطة اشتراكات عمال المنجم وبجولة خفيفة قادتنا إليها تفاجأنا من الحالة التي آلت إليها إذ أضحت خرابا بأتم معنى الكلمة وعشعش الحمام بأسطح السكنات الوظيفية التابعة لها، والتي هي شاغرة كما أن الخدمات الطبية المقدمة بها لا تتعدى الفحوص وتقديم الحقن ناهيك على أنها لا تعمل بنظام المناوبة والمرضى بعد نهاية الدوام اليومي يضطرون للتنقل الى مقر الدائرة بوسائلهم الخاصة نظرا لعدم امتلاكها لسيارة إسعاف ومع بداية العمل بالوحدة المنجمية ستتفاقم الوضعية أكثر خاصة بحصول الحوادث المهنية. الحاجة إلى ثانوية في مجال التعليم تضم القرية مدرستين ابتدائيتين أثار بخصوصهما السكان مشكلا متعلقا بالتسمية إذ أنهما رغم انفصالهما تحملان اسم الشهيد حجاوي محمد وعند استقلالهما أطلق على الاولى إسم الشهيد حجاوي محمد رقم 1 والثانية حجاوي محمد رقم 2 حيث يقول السكان أنه كان من الافضل إطلاق إسم شهيد ثان على إحداها واحتفاظ الاولى باسم الشهيد حجاوي محمد خاصة وأن عدد شهدائنا يتجاوز المليون ونصف المليون شهيد. اضافة الى هاتين الابتدائيتين تتوفر القرية على متوسطة واحدة يدرس بها الى جانب أبناء قرية العابد تلاميذ القرى والمداشر المجاورة كالبويهي، ماڤورة، أولاد عبد السلام، في حين يبقى طلبة التعليم الثانوي يتنقلون الى مقر الدائرة سيدي الجيلالي لذا فأولياؤهم يطالبون بانجاز ثانوية بهذه القرية لتجنيبهم مشاق التنقل ا ليومي. الحديث عن مجال الترفيه بهذه المنطقة يبقى حديثا ذو شجون فرغم العدد الهائل من شباب القرية أو أولئك القادمين من أجل العمل تبقى المرافق الترفيهية منعدمة لتعوضها المقاهي التي أصبحت مقصدا لهم خاصة في فترة إقامة نهائيات المونديال، أين كانوا يتابعون مبارياتها بهذه المقاهي لكنها تبقى غير كافية لاستقطاب الشباب، خاصة أصحاب المواهب، فدار الثقافة تظل مغلقة وغير مجهزة لحد الآن أما الملعب الوحيد المتواجد بهذه المنطقة أضحى لا يصلح لممارسة كرة القدم بفعل الضغط المتواصل عليه فساءت أرضيته علما أن القرية بها فريق ينشط ببطولة الجهوي الثاني الأمر الذي يدعو إلى إعادة تهيئة الميدان.