هناك مسائل خاطئة زرعت في أذهان الناس، ومنها أن الدولة القوية هي دولة السلطة القوية وهي دولة الجيش والأمن. هذا المنطق يرى أن كل تقييد لسلطة السلطة يؤدي إلى التسيب ويهدد الاستقرار. هذا غير صحيح. فالدولة القوية قد تكون في إضعاف سلطة السلطة وتقييدها. الدولة القوية هي دولة المؤسسات. وهذه الدولة لا تعني إضعاف الجيش بل إضعاف أصحاب النفوذ أمام القانون وهذه الدولة لا تعني التخلي عن قوة المؤسسة الأمنية بل تعني إضعاف البيروقراطية الأمنية التي تستقوي على المؤسسات وعلى القانون وتفسح المجال للنفوذ وللعصب والجماعات. الدولة في حاجة لجيش قوي في خدمة الدولة والمواطنين وفي خدمة المؤسسات والدستور والقانون وليس في خدمة سلطة السلطة. والدولة في حاجة لمخابرات وأجهزة أمن قوية لحماية أمن البلاد داخليا وخارجيا وسيفا مسلطا على الفساد وعلى ما يهدد أمن الناس والقانون والدولة وليس سيفا مسلطا على رقاب المواطنين وعلى آرائهم ومنع غضبهم واحتجاجهم. قد يقول البعض أنت مثالي، ذلك غير موجود إلا في المدينة الفاضلة لأفلاطون أو الفارابي أو عند قوم ''عيسى'' من المتحضرين، أما نحن فقد تعوّدنا على حكم القهر والاستبداد. طبعا مثل هذه الواقعية السلبية هي ملمح من ملامح وضع وحالة نفسية ينبغي أن تندثر نهائيا من عقول الناس. فالاستبداد والفساد والجهل وتخلف الناس عن مسؤوليتهم تجاه أنفسهم ومجتمعهم هي مكونات الوضع وأسباب لاستمراره. وتلك حال قد نعتبرها قابلية للاستبداد. عندما قال مالك بن نبي بفكرة القابلية للاستعمار، فإنه كان يقصد وضعا من الانحطاط الثقافي والفكري والأخلاقي والاقتصادي، لما أسماه إنسان ما بعد الموحدين، أوصله لأن يكون غير قادر على مواجهة الأطماع وفي حال عدم القدرة على رد الاستعمار. فهل ما نعاني منه اليوم هو قابلية للاستبداد، وأن إنسان ما بعد الموحدين، حتى وإن تخلص من الاستعمار في شكله المباشر، ما زال يعيش هذه القابلية للاستبداد وحتى لقابلية الاستعمار في أشكاله الجديدة؟ كم هو جميل ومعبّر ما قاله عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ''طبائع الاستبداد'': ''إن الاستبداد يقلب الحقائق فى الأذهان، فيسُوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحقِّ فاجرٌ وتارك حقّه مطيع والمشتكي المتظلِّم مفسد والنّبيه المدقق ملحد والخامل المسكين صالح أمين، ويُصبح النُّصْح فضولاً والغيرة عداوة والشّهامة عتوًّا والحمية حماقة والرحمة مرضاً والنِّفاق سياسة والتحيُّل كياسة والدناءة لطف والنذالة دماثة''. من المسائل الخاطئة والخطيرة أيضا أن بعض الأحزاب صارت لا تختلف في علاقتها ب''مناضليها!'' عن الزاوية. فالمناضل صار مريدا ولا يمكنه مناقشة أي شيء في حزبه. بل ينبغي أن ينتظر ''الانقلاب النخبوي الدوري'' الذي قد تقوم به هذه العصبة أو تلك. الكثير من الأحزاب ليست مؤسسات سياسية تمثيلية، إنها تعبير عن الحكم وليس عن المجتمع. تمعنوا قيادات الكثير الأحزاب، إنها ترأس أحزابها منذ أكثر من عشرين سنة، على الرغم من كل التطورات وعلى الرغم من كل ألوان الفشل السياسي بالنسبة للبعض منهم. فالبعض ضاعت منهم أحزاب والبعض الآخر ضيّع الأحزاب والبعض الآخر صمت صمتا مريبا. اليوم وبإجماع الدراسات والكتابات والمواقف السياسية، لا تقوم أغلب الأحزاب والكثير من تنظيمات المجتمع المدني بوظيفتها في الرقابة السياسية ولا في التقييم والتقويم وأقل من ذلك في إعطاء الفعل السياسي الاجتماعي معنى وقيمة عند الجزائريين. وإذا ما عجزت هذه الأجهزة السياسية عن بناء حياة سياسية تنظم الجزائريين فتلك مشكلة سياسية عميقة. وقد عاشت البلاد زمنا من احتكار رديء للساحة وهناك من يرى في هذا الاحتكار الرديء وضعا سياسيا ينبغي حمايته. وذلك قد يؤدي للاعتقاد أن إصلاح الحال غير ممكن بالوسائل السياسية الديمقراطية. والواقع إذا لم تتمكن ''السياسة'' من إخراج الناس من هذه القابلية للاستبداد فمعنى ذلك أنها لا تمارس وظيفتها في تحرير الناس بالعمل السياسي السلمي. وذلك ليس خطأ بل خطيئة. إن أول ما ينبغي أن نتعلمه من قواعد خدمة الشأن العام هو المسؤولية وفضيلة الاعتراف بالخطأ والقصور والتقصير. وهذه للأسف هي الغائب الأكبر اليوم عند من تُدعى ''الطبقة السياسية'' والتقليدية منها بشكل أخص. [email protected]