توجد بعض النخب الاجتماعية في وضعية غير تاريخية، تكاد تكون متعفنة، وبالأخص تلك المنتمية إلى ما تبقى من البرجوازية الوطنية التي عاشت جنبا إلى جنب مع المعمرين، أو كانت خادمة له. فهي تعيد إنتاج سلوكيات كولونيالية شرسة، دون وعي منها (أو بوعي، لست أدري). وتجدها تتصرف مع الغير كأنها في مرتبة الكولون، والناس من حولها مجرد حشرات يجب رفسها، وسحقها. هذا ما عاينته الأسبوع الماضي، وأنا بصدد متابعة مصارعة أستاذ جامعي لقوى التخلف التي تطغى أحيانا كثيرة، وتحاول فرض نفسها وانحرافها بشكل سافر، ثم تجد من يساندها ويقف إلى جانبها. والغريب أن هذه المساعدة، واليد الممدودة جاءت من شخص ظن أنه يدافع عن الحق لكن بشكل أكثر شراسة، وأقل احتراما. فحوى القضية أن عون أمن، طلب من أستاذ جامعي ركن سيارته وفق الطريقة التي يريدها هو. وفي اعتقاد الأستاذ أن السيارة كانت مركونة بشكل عادي جدا، فجرى كلاما بينهما، وإذا بشخص ثالث يتدخل ويهاجم الأستاذ الجامعي وينعته ''بالمُقمّل''، وقد قالها باللغة الفرنسية، وراح يتحدث بها. كان شيخا في مقتبل العمر، لكن كيفية لبسه كانت منحطة، فقد فتح قميصه إلى غاية البطن، وبرز شعر صدره. ورحم الله أيام زمان لما كان عيب على الرجل أن يظهر على هذه الهيئة المنحطة والسافرة. هذه هي التربية التي تلقيتها، ووعيتها، وكنت شاهدا عليها. ظل هذا الرجل يردد كلمة ''المُقمّل'' مرة ومرات، والأستاذ الجامعي حائر، جاثم في مكانه، لا يعرف ماذا يفعل، فهو يدرك جيدا أنه يوجد في المجتمع الجزائري أناس ربّتهم فرنسا تربية سيئة، تلقوا مبادئها في مكاتب ''لاصاص''، وكانوا يشاهدون الفرنسيين وهم يعاملون الجزائريين معاملة سيئة وقاسية، فيصفونهم بالمقمّلين وبالمنحطين و''البيكو''، وغيرها من النعوت التي تحطّ من قيمتهم، وتدس أنفتهم وكرامتهم في التراب. ثم أن ذلك الرجل طاعن في السن، شاب شعر رأسه، فكيف يعامله الأستاذ الجامعي بالمثل، أو يحاول وضع حد لسبابه، وهو ذو تربية لقنته احترام الكبير في السن، مهما كان. وبدا عليه ارتباك كبير، ورغم ذلك لزم صمته، وقابل السب بعدم الاكتراث رغم شدة الغيظ في قلبه. دار بيني وبين الأستاذ الجامعي حديث بعد المعركة، فلمست أنه يعرف هذا الماضي جيدا، وهو صاحب وعي بمسألة إعادة إنتاج السلوكيات الكولونيالية، فوصل بنا الحديث إلى ألبير ميمي الذي حلل هذه القضية تحليلا فلسفيا وأنتروبولوجيا وافيا في كتابه ''صورة المستعمر''، وعلى خطى ابن خلدون، استنتج ألبير ميمي أن المُستعمر مولع بتقليد المستعمَر، وله القابلية لإعادة إنتاج خطاباته وسلوكياته. وانتقلنا إلى تفسير فرانتز فانون وقراءاته النقدية للبرجوازيات الوطنية في المستعمرات الإفريقية التي تأثّرت بالاستعمار إلى حد إعادة إنتاج كل ما يتعلق به، وكيف يشكّل وجودها دفعا للاستعمار وضمانا لبقائه، واختفاء هيمنتها وثقافتها خطوة نحو التحرر. ثم وصلنا إلى مرحلة البومدينية التي لم تثق في هذه الفئات الاجتماعية، واعتبرتها كمصدر للخطر والإزعاج، فراحت تحاربها وتقلّص من نفوذها وهيمنتها عبر ترميم أراضيها وغيرها من الإجراءات التي وقعت، والتي رصدها الطاهر وطار في رواية ''الزلزال'' الشهيرة. ولا يزال الأستاذ الجامعي يتذكر تلك المرحلة الصعبة لما كان يسمع هنا وهناك أصواتا برجوازية منزعجة تردد داخل الجامعة كلاما من قبيل ''أيها الرعاة، بومدين هو من فتح لكم مجال الدراسة''. كنت أعتقد أن مثل هذه السلوكيات انتهت وانقرضت، وأبادتها سنوات التعليم الوطني والثقافة الوطنية. لكن يبدو أنني كنت مخطئا، إذ ما يزال يوجد من يعتقد أنه هو الكولون، وباقي الناس من حوله مجرد أنديجان لا يستحقون أدنى احترام ولا تقدير.