قياسا إلى ما يكتبه النضاليون من ذوي الحماسة والتأهب والإستباقية تأتي وسيلة تامزالي استثنائية وناشزة ولا تتألًف كتابتها من عناصر الطاعة والإذعان والإستكانة وهي كتابة غير عجول ولا ملول ولا تولًد السًلب والخوف واللاأمل، في تنشئة جزائريًة جاءت الكلمات متعدًدة الوظائف، جاءت الكلمات بلسانها المبين، برائحة الزًهر والياسمين، جاءت بالأيادي النًاعمة ولها التًلويحات والصمود و فنٌ التشبٌث بالأرض لا بالأقدام بل بالروح والنًبض واليقين·· دخلت وسيلة تامزالي على عشاق السيرة ذاتية وفنونها الطويلة، الرًهيبة، والخلاَقة، دخلت كفتاة غضَة رومانسيَة، نبيلة المُحتدً ولها في أصلها حكايات وأقاصيص وفروسيًات ما يصعب قوله والتيقٌظ له والإحساس بعنفواناته قالت تامزالي كأميرة سابقة، ابنة الرجل النبيل الذي اغتالوه بالعار، الطفلة والجثمان ورسالة الكولونيل عميروش هي الخبر العاصف والمبتدأ اليقين، سرد أثير و أثيري على موجات مختلفة و نادرة يجود به هذا النًص المكتوب بالفرنسيًة الأنتقة والمترجم إلى عربيًة مُتًسقة القوام لاقت بسيرة امرأة من بجاية·· هذا النًوع من /السِير ذاتيًة/ يأكل الإهتمام ويشوق في النفس أشواقها المُبحرة نحو البعيد، تشبه تامزالي في نصها الذاتي، الحنيني، فاطمة أولفقير في /السًجينة/، أو ألبير ميمي في /صورة المستعمَر/ أو ريجيس دوبري في /ثورة في الثورة/، كتابة تحنو على الماضي الذي كانت الطفلة، عاشته بين مروج بجاية وكورنيش سانت اوجان وشقًتها في ديدوش مراد والأساطير المؤسسة على الحلويات والعجائن واللحم المكبوس، وتقسو الكتابة نفسها مع الأفق السياسي الذي كان يبزغ كي يهيمن بالأبيض والأسود على مجمل المشهد· يأتي في كتاب الوثيقة الحميمة حوادث وأحداث بعيدة وقريبة غير قليلة عن التنويعات التي يمكن أن تشهدها امرأة واعية، مبالية لكل ما يحدث حولها، إنسانيًة، غير واقعة في فخاخ النضال البئيس الذي جنا على الجامعة والأدب والحب والحياة، وعلى المصير و الناس· من النوستالجيا والماضي المكذوب عليه بترهات القادمين الجدد إلى الرقة والصوت الرخيم من طفلة في الثالثة عشرة سنة صدر وتواصل -هذا الصوت- مع القسوة على كل شيء أهلكوه، تركوا على بياضه البُقع التي لا ترحل كالصدأ، لم تؤثِر تامزالي البقاء على قيد البكاء وانتهى قُتل الرجل، الوالد، الذي ملك المزارع والمتاجر و المخازن، عصَب آل تامزالي وماسك القيد والمعصم وهاهي وسيلة تُرثيه، تُرمم عطبا في ذاكرة اشتراكيًة غاوية بلاهة وتبيان وجثمانية، في أصولها دم السادة الأسبان، أخلاط البربر البجاويين وعند الأجداد، المكانة المثلى في سقام البيت التركي، أكثر من ذلك أن تأتي الإستحقاقات المستمرة في عالم التجارة والصناعة والتأهيل الليبيرالي· أبحث عن طريقة تذهلني أكثر، تجعلني هائما وراء السطور هاتكا كل الأسرار التي رافقت السيرة الكتابية التي سار فيها من كتبوا أدبهم الذاتي فلا أجد إلاً أنفاسا جديدة وأشواق فضاحة في كتاب تامزالي /تنشئة جزائرية/ من الثورة إلى العشريًة السوداء، فكأنًه التاريخ السري لعاشق الأرض، النبيل، المتفرد، الحقيقي، صور و إشارات كثيرة ظلًت تسردها هذه المرأة ومشاهد عن حياة زراعية كاملة الأوصاف وحيث لا تكون تلك الأوصاف إلا على سفوح جبال البيبان والبابور، بين رأس كاربون ورأس سيغلي ولتُمدِد ببصرك نحو شجرة ميموزا كبيرة وزهور كثيرات، مغروسة في شكل أجمات وعريش وسياج وممرات زهرية، /كانت المزرعة تُطعمنا بالخضر واللحوم والبيض والحليب، حليب طري تنبعث منه روائح البقر/· فقط ما يتعلق بالمزرعة وحياة المٌلاًك و المطاردات المُحكَم الصنع، أمر جرى الكلام فيه كثيرا عن جزائر ما بعد الثورة والثورات التي تلتها، كان يكفي أن تبتلع قاعة نادي السينما الطامحين والحالمين والمتحدثين البالغين باللغة الفرنسية حتى يتندًر أحدهم على عربية عرجاء تدعو للتصفير، فالثورة الثقافية لم تكن ذكية بالقدر الذي كانته شقيقتها المُسلًحة التي حازت الحسم واستحصلت المبتغى وتركت الأذيال مجرورة، ثقافويا حسب تامزالي الشابة التي ستعرف أشياء جميلة عن الآخر والقبيلة والإثنيات وعن الأدب و السينما، لم تبْدُ الأمور منتهية بالحسم رغم الكسموبوليتية الثورية التي عرفتها الجزائر /كانت قاعة نادي السينما مكتظًة كل مساء، كان الكل يأتي إلى هنا، أملا في العثور على بعض أحلامه، بينما كان البعض يتناقشون في مسائل العالم والإستماتة في الثورة وبالاستشهاد بالكبار أمثال غودار، ميغيل ليتان التشيكي، يوسف شاهين الإسكندري،/ الربيع السينمائي هذا و كل الفصول التي تتْرى تباعا لم تُغيًر البنية المعقًدة للحس الشعبي العام، فعُمَر قتلاتو الرجلة لمرزاق علواش عكَس البطريارتية العالية الكعبين و الأصوات التي تتأذًى منها النساء لكن قبل ذلك و هو الأهمٌ لا نقد و لا روح نقدية تخرج من ضلوع التجربة الإشتراكية الفورات و الفورانات كانت سيدة الموقف، من ذا الذي سيجرؤ و يخفق بسره أو يتعالى بنبله أو يتعاطى سيجار الهافانا غير الزعيم، رحلة تثاقف خصب و مغري مشت في مسارها الأميرة الجزائرية وسيلة تامزالي، التنشئة الجزائرية تضمن حرقة و نداءات حسرة و ملامة تكبر على العين و على الحاجب إلى حدً التهكٌم الإيجابي من خطاب /الصناعة المصنًعة /معركة التنمية/ /الإخوة و الأخوات/ /المرحلة الأولى/ المرحلة الثانية/ و طبعا الثورة الزراعية/ و طبعا كذلك الشتائم من كل لون /برجوازي/ و معناه السياسي /حقير/ /الإستعمار الجديد/ /المثقفون/، أديبات ساقتها هذه السيرة الذاتية الرائعة لترمي بخيوط الإضاءة على مرحلة غير مأسوف عليها نبرة و أحلاما مجهضة و طريق زلق و غبار يحجب السماء و شمس السماء، في فصل من كتاب كهذا لم تكن وسيلة ككاتبة إلاً مسؤولة عن الذي تقوله، كبيرة على معاناة نالتها شخصيا و ككل عائلي و كسكن برجوازي استهدفه بالنار و الرصاص القديم الذي باع أثوابه لشيطان المرحلة· لقد سمًت الجميع بأسمائهم، نادتهم كالمعلمات أمام سبورة الدرس كالمحامية أمام مجالس المدًعين ردًت على نعوتهم المقذعة ببيان سياسي في البطولات المهزومة حتى الديماغوجي ناصر ذكرته و ذكرت قرينه الذي كان يلثغ بحجل سرقها من شارل دوغول· الكولونيالية يتبدد بك الاستمتاع و يشحذ همتك للمزيد من حفلة المروي و المشوي عن جزائرنا التي لا يكتبها لنا هذه المرة لا جان دانيال و لا اليزابيت شاملة و لا السينيمائي رينيه فوتشيه و عدساته بل من عاشت هوى الأرض و الدار و الحايك و فن تربية الزهور· بعد الذي نعبره فوق المسامات و تحت الجلد و بين الكلمات و المروج لا نشعر فقط بدبيب الطفلة الملاك، الطفلة البرجوازية، المسروقة من أحلامها المنتصرة، المخدوعة في الظهر من الإستعماريين الحُثالى و ممن قتلوا الأب الباني، الحاني، الحامي للأصل و للفصل و للميراث·· سيرة مشطورة في حادثة قتل عمد لا أحد يعرف القاتل المجهول و الأرض المشطورة التي أحرقها الغشوم الأجنبي، بحذاقة من يطهًر بالفناء، و أجدبها جفافا و جفاءا من سَيًرها ذاتيا كمشتلة و بقرة يُطلب حليبها يوم المعشر لا غير /نقد لاذع للبومدينية/· الغضًة الطريًة، الرومانسية في لغتها، في استعادتها لذاكرات مهلوكة و حب متلعثم و حريات في السراديب تزدهي و تتراصٌ، لم تستعمل أيًة قُفازات و لا واقيات رصاص و لا سياسوية مقنًعة، لاَ لاَ - لا شيء كهذا كان يُذكر و نقرأه اللحظة في تنشئة جزائرية، بل الأفضل هو البحث عن المناجم الزاخرة و اللسان · كلاً لم تكن اللغة تلك لغتها و لا نشأتها فرضت عليها أسلوبا غير الذي ألِفَتْه، ينسجم مع روح امرأة برجوازية واعية، أصلانية، ترمق الوطن بين أرجائه الفسيحة في مروجه الخضر، بلد رائع خلاًبُ، له حصون و مواقع و آثارات و له حب الصغار من الشعب الطيًب إلى البرجوازيين الكبار من أمثال آل تامزالي و وسيلتهم التي قالت عن أقطاب انوجدوا في اللحظة الجزائرية /أوغسطين النوميدي ابن موزيك، ابن خلدون منفي الأندلس، سيرفانتس أسير مدينة الجزائر، الذي كان يرسم بعد، ملامح دون كيشوت، عندما يتأمل البحر من قعر كهفه و يحلم أن يصبح كاتبا على غرار آلاف الجزائريين اليوم يحملون الجَمال و القوة و الأدب/··