أجزم أن الاستقلال الحقيقي يبدأ من بناء دولة الجزائريين، دولة المؤسسات والقانون والمواطنين. لماذا؟ لسبب بسيط، الدولة ما بعد الكولونيالية لم تتمكن، للأسف، من إنجاز الاستقلال الفعلي، ولم تتمكن من بناء الدولة الوطنية المعبّرة عن هذا الاستقلال، بل كانت في الغالب استمرارا لكولونيالية جديدة، خاصة في علاقتها بالجزائريين. الدولة ما بعد الكولونيالية قامت بالأخص على قاعدة توافقية ضمنيا، أي ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأغلبية، مقابل الحرمان من الحقوق السياسية، ولكن، للأسف، غابت فيها المؤسسات والمواطن. ثم جاء زمن وهم الحقوق السياسية، مقابل التخلي عن جلّ الحقوق الاقتصادية الاجتماعية. فسارت الأمور، عمليا، باتجاه غياب القانون والعدل، فضلا عن غياب المؤسسات والمواطن. وإذا كانت المحاولة الأولى لبناء الدولة الوطنية قد أنجزت بعضا من وعودها في العدالة الاجتماعية، فإن الوعود الخاصة بالحقوق السياسية ظلت مجرد وعود، بل هناك ما يؤشر بقوة، خاصة منذ التعديل الأخير للدستور وبشكل أخص بعد الانتخابات الأخيرة، إلى أن هناك شبكات سطت على كل شيء، وصارت قاب قوسين أو أدنى من الهيمنة على القرار واحتكار السلطة والثروة. ينبغي أن نلاحظ أنه رغم النوايا الحسنة في نهاية الثمانينيات، إلا أن السلطة الفعلية جعلت الانتقال يقتصر على الانتقال من لغة سياسية لأخرى، ومن ترسانة مصطلحات إلى أخرى. نعم، لقد تم تعويض الاشتراكية بالإصلاحات، والثورة بالديمقراطية، والعدالة الاجتماعية بالنجاعة، ودولة الرعاية بالشبكة الاجتماعية، وتم تعويض الإمبريالية بالعولمة، والتأميم بالخصخصة، والتنمية المستقلة بالتنمية المستدامة، والاستقلال بالاندماج في السوق العالمية، وحقوق الشعوب بحقوق الإنسان، والجماهير والطبقة العاملة بالمجتمع المدني، وغيرها كثير (محمد عابد الجابري). اليوم.. نحن في زمن دولة الأقلية، ولا ينبغي الاستمرار في أي مغالطة بأن البلاد تسير في طريق التنمية، وأقل من ذلك في طريق الاستقلال والحرية والديمقراطية، وأقل من ذلك في طريق حلّ مشكلة السلطة وبناء دولة المؤسسات والقانون. لقد ابتعدنا أكثر عن حلم الدولة الوطنية، لأننا وصلنا إلى هيمنة الأقلية انطلاقا، على ما يبدو، من فكرة خاطئة قاصرة ومنحرفة، وهي أنه لابد من قيام ''نخبة!!'' برجوازية تتولى قيادة المجتمع نحو التنمية والحداثة، بل وحتى الديمقراطية، أي الانتقال من العواطف (الثورة والعدالة) إلى المصالح ( المال والاحتكار). ولكن، ثبت في الكثير من التجارب أن ذلك لا يتجاوز حدّ قيام طبقة منتفعة من أدوات الدولة والمجتمع ومستحوذة على الثروة، بشكل غير قانوني وغير أخلاقي ولا تنتج في الغالب إلا الفساد، وهو فساد يرتبط بالفساد على المستوى الدولي ويندمج فيه، بل ويتحوّل إلى مجرد أداة تبعية. الكل يعلم أن الليبرالية السياسية ارتبطت، مثلما كان الحال في الكثير من تجارب ''الانتقال'' في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية وغيرها، بالرأسمالية الفوضوية وتغييب كل ضوابط وكل رقابة، بل وكانت وسيلة ارتباط أقوى بالاستعمار الجديد. لقد أفرزت الكثير من التجارب، تدهورا للدولة وقدراتها، وتدهورا لمنظومات التربية والتعليم والثقافة والصحة وللمنظومات المالية، وتغييب الرقابة والإفلات من القانون، وغيرها كثير. ولكن مع ذلك، دعنا نتساءل على سبيل الافتراض: هل هناك طبقة برجوازية ورأسمالية في الجزائر، لها ثقافتها ولها سندها الاجتماعي ونخبتها المنتجة لفكرة سياسية أو رؤية سياسية ومشروع مجتمع؟ تؤكد دراسات سوسيولوجية كثيرة أنها غير موجودة، وما هو قائم هو أفراد يشكلون تحالفا مع السلطة الريعية، تحوّلوا لطبقة مستفيدة ومحتكرة، ووصل الأمر، كما يقول رجل سلطة مثل أويحيى، إلى تحكم هؤلاء في الحياة السياسية ومفاصلها الأساسية. نرى، اليوم، بوضوح أن الأحلام في الحقوق الاقتصادية ثم في الحقوق السياسية أجهضت، بل وأعليت أسوار جديدة في وجه الاستقلال والحرية. الأقلية المركانتيلية لا يمكن أن تنتج إلا وضعا فاسدا، لأنها تجمع الثروة بلا جهد، وبلا أي اجتهاد يذكر، بل ومن دون دراية، لا بمستلزمات السوق وآليات إدارته، ولا بأي رؤية اقتصادية سياسية. والخوف، كل الخوف، أن هذه الشبكات الفاسدة ترتبط بالفساد الدولي والإقليمي، وتصبح غولا يهدّد الاستقرار، بل واستقلال البلاد. فكم ستدوم الدولة النيوكولونيالية؟ ومتى تقوم الجمهورية الثانية؟ ومن يتمكن من إقامتها؟! في كل الأحوال، ذلك شرط السير باتجاه الاستقلال. [email protected]