في ظل صراع الفصائل بشمال مالي، وجدت الجماعات الإرهابية الناشطة بالساحل الصحراوي الفرصة للتوغل بالمنطقة وإرساء قاعدة لها، منحتها قوة جديدة، وخلصتها من الحصار الذي شهدته في الأشهر الأخيرة. نفذ مختار بلمختار وأبو زيد من شمال مالي عدة عمليات إرهابية، مكّنتهم من الضغط على المجتمع الدولي، وفرض الفدية على عدد من الدول مقابل إطلاق سرح رهائن لديهما. لكن السباق حول من يتمكن من قبضة السيف قضى على حلمهم، وأدخلهم في صراع وصل إلى حدّ الاقتتال، ما ساعد تنظيم القاعدة على تحويل شمال مالي إلى معقل له. أربعة تنظيمات مسلحة.. قوى تريد السيطرة على شمال مالي دخول منطقة الخليل والخروج منها بسلام، في المرة السابقة، زادنا إصرارا ومنحنا العزيمة للعودة مجدّدا إلى المنطقة، التي لازالت تعيش على وقع صراعات قبلية وصلت إلى حدّ الاقتتال، وكانت وراء تراجع حلم انفصال شمال مالي. هذه الظروف ساعدت الجماعات المسلحة الناشطة بالساحل الصحراوي، حيث سهّل عليها ذلك التوغل بالمنطقة وبسط نفوذها عليها. فالصراعات القبلية جزأت شمال مالي، وخلقت أربع قوى تتسابق من أجل التحكم في قبضة السيف. هذه الأسباب جعلتنا لا نكتفي بما تمكنا من الحديث عنه في الروبورتاج الأول، فجلوسنا إلى عناصر الجبهة الوطنية لتحرير الأزواد لم يكن كافيا، ما دفعنا، هذه المرة، إلى تغيير الوجهة، والبحث عن مرافق آخر غير ابراهيم والطاهر ليوصلنا إلى جماعة أخرى. وقد كان الأمر صعبا، لكن ليس مستحيلا، فتواجد اللاجئين الماليين بمنطقة برج باجي مختار التي عدنا إليها، سهّل من مهمتنا، حيث علمنا أن قبيلة البرابيش الجزائرية فتحت أبوابها في وجه اللاجئين الماليين من المنتمين لنفس القبيلة، وهو الأمر الذي جعلنا نتوجه مباشرة إلى مكان تواجدهم. وهناك، التقينا برئيس بلدية تمبوكتو السابق، الذي تحدث عن الوضع في مالي وما خلفته الحرب من دمار وخراب، مشيرا، في حديثه ل''الخبر''، إلى أن ما يحدث في مالي يعدّ أمرا في غاية الخطورة، فالسلاح، حسبه، أصبح هو اللغة السائدة. تركنا محدثنا وتوجهنا إلى محطة النقل ببرج باجي مختار، وهناك وجدنا سيارات رباعية الدفع، كانت وجهتها مدينة الخليل المالية. اقتربت من أحد السائقين، وسألته عن إمكانية ذهابنا إلى هذه المدينة الحدودية، ولم نجد أي اعتراض منه، بل أبدى استعداده لنقلنا ومساعدتنا في الأمر. غادرنا برج باجي مختار على متن سيارة رفقة أشخاص آخرين، كانوا هم أيضا متوجهين إلى الخليل. وفي الطريق، توقف السائق بمركز حدودي، وتوقفت معه نبضات قلبي. اقترب أحد حرس الحدود من السيارة، وألقى نظرة على جميع الركاب، ثم أدار بصره إلى السائق وطلب منه مواصلة السير. قبل وصولنا مدينة الخليل التي تصحو وتنام على صوت الرصاص، تساءل السائق عن الوجهة التي نريد الذهاب إليها. هنا، لم نجد أمامنا سوى الكشف عن هويتنا: ''أنا صحفية، وأريد الالتقاء بأشخاص من قبيلة البرابيش''. جوابنا هذا أخاف السائق الجزائري نوعا ما، فطلب منا ألا نقحمه بأي حال من الأحوال في مهمتنا هذه، وعدم توريطه مع السلطات الجزائرية. لذلك، تركني أمام مستودع كبير وسط الخليل، جداره الخارجي من الطوب، بعد أن طلب مني 250 دينار جزائري، ما يمثل تسعيرة خدمة توصيلنا. في الوهلة الأولى، بدا لي المكان الذي توقفنا أمامه مهجورا، وما هي إلا ثوان حتى لمحت شابا يخرج من المستودع، فتوجهت نحوه وطلبت منه إرشادي إلى مكان وجود زعماء القبيلة. ولم أصل إلى غايتي إلا بعد أن عرف الشاب هويتي وسبب قدومي إلى الخليل، حيث تركني لبضع دقائق ودخل المستودع، ثم عاد ليطلب مني الذهاب معه إلى مكان آخر، حتى يتمكن من تنظيم لقاء لي مع زعماء القبيلة. ثم انتقلنا بعد ساعة من الزمن إلى مستودع آخر، ليس ببعيد عن الأول. وهناك، وجدنا مجموعة من الرجال المسلحين أمام البوّابة ووسط الفناء. تبادلنا أطراف الحديث معهم، حيث قالوا إنهم حملوا السلاح من أجل الدفاع عن ممتلكاتهم وأراضيهم. بعد ذلك، عدنا أدراجنا إلى نفس المكان الذي توقفنا فيه لأول مرة، لنجد بداخله عددا معتبرا من المسلحين، وما هي إلا لحظات بعد توغلنا داخل المعسكر، حتى سمعنا صوت الرشاشات والسلاح الثقيل يدوّي المكان. ''الحركة العربية الأزوادية'' مستعدة للتحالف مع الإرهاب لتحارب الغرب المكان الذي كنا فيه تابع إلى ''الحركة العربية الأزوادية''، وهي طرف ثان في المنطقة، شارك عناصرها في ''تحرير شمال مالي من قبضة الجيش الحكومي'' مثلما قيل لنا. لكن المستجدات التي وقعت جعلتها تغير مسارها، وفرضت على قادتها اختيار طريق معاكس حيث تخلوا، مؤقتا، عن حلم الانفصال، واكتفوا بالدفاع عن تحقيق المساواة مع سكان الجنوب، وأخذ مكانة لهم وسط الصراع القائم. بعد مشاهدة الاستعراض القتالي بالمعسكر، قال المدعو زودي بن سالم، وهو ناشط سياسي بالحركة، إنهم يرفضون أي تدخل أجنبي مهما كانت أهدافه، وهم على استعداد تام لدخول حرب ضد أي جهة، غربية كانت أو إفريقية، إذا وطئت أقدام جيوشها أرض شمال مالي. وقد أوضح الناشط السياسي زودي بن سالم، أن الحركة وبعد أن واجهت الحكومة المالية ''التي قامت بإبادة الجنس الأبيض، وتغلبت على جيوشها، بالتعاون مع الفصائل الأخرى، هي الآن تستعد لمواجهة الخطر الخارجي، حيث تم تجنيد 10 آلاف مقاتل وألفين آخرين موزعين على أربعة مواقع عسكرية، تمتد عبر الحدود الصحراوية الموريتانية''. وتبقى المنظمة الإفريقية هي الوحيدة التي لها حق التدخل لحماية الماليين ووقف الاقتتال، حسب محدثنا، الذي علل تغيير تنازل الحركة عن حلم الاستقلال والاكتفاء بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، برفض المجتمع الدولي التقسيم الفصائلي. هذا السبب دفعهم، حسبه، إلى سحب مطلب انفصال شمال مالي، واكتفوا بالتفاوض لتحقيق المساواة بين الشمال والجنوب. أما عن القوى المسيطرة حاليا، فقال محدثنا إن حركة أنصار الدين وبعض الكتائب الجهادية المدعومة من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، هي التي تمسك بزمام الأمور. فبعد أن تمكنت الفصائل من إسقاط جميع المدن بشمال مالي، وقعت اشتباكات بين الفصائل التي تتسابق للسيطرة على المنطقة. وهنا فضلت الحركة العربية الأزوادية، حسب محدثنا، الانسحاب، تجنبا لوقوع حرب أهلية. من جهة أخرى، يبقى أتباع مختار بالمختار، في نظر الحركة العربية الأزوادية، قوة موجودة بالصحراء منذ 14 سنة وهي حركة جهادية، حسب المتحدث، يحترم عناصرها الشعوب الأخرى، وليسوا همجيين مثلما يصوّرهم الغرب. كما دفع التخوّف من التدخل الغربي الحركة العربية ''للتفكير في التحالف، ولو مع الشيطان، لحماية الأرض'' مثلنا قال الناشط السياسي، وأضاف: ''نحن جنبا إلى جنب مع الحركات الأخرى، سواء كانت أزوادية أو جهادية لمحاربة الغرب''. من معسكرات التدريب ومخازن السلاح إلى معاقل المهرّبين استطاعت الحرب أن تستقطب جماعات التهريب ومافيا السلاح والمخدرات، الذين وجدوا أمامهم فرصة تغذية الصراع القائم بالمنطقة، وأججوا نار الاقتتال. فمن معسكرات التدريب ومخازن السلاح، انتقلنا إلى معاقل المهرّبين الذين جاؤوا من بلدان مختلفة، كالجزائر وموريتانيا وليبيا وغيرها. كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء، عندما خُيّرنا بين العودة إلى داخل الحدود الجزائرية أو قضاء الليل بالخليل، فوقع اختياري على مواصلة المغامرة، خاصة أنني شعرت بالاطمئنان لوجود عنصر من الحركة العربية الأزوادية برفقتي طوال الوقت، حيث عدنا برفقته إلى المكان الذي زرناه في الصباح، في انتظار موافقة قادة الحركة على استقبالنا. كان الوقت يمر ببطء، لا أجد أمامي مكانا أرتلح فيه سوى الجلوس في ذلك المكان رفقة 7 أشخاص من جنسيات مختلفة، معظمهم يحملون رشاشات. مرت أربع ساعات، ونحن نتحدث عن الحركة التجارية التي توقفت بالمنطقة بسبب الحرب. وكلما تقدم الوقت، كلما شعرت بملل كبير. هذا الشعور كان باديا على وجهي، ما جعل أحد المتواجدين بالمكان يصرّ على أخذي في جولة بشوارع الخليل. ركبنا سيارة وتوغلنا وسط أزقة ضيّقة ومظلمة، ومن حين لآخر، كنا نلمح مجموعة من الناس يجلسون على الأرض، فالحركة كانت شبه منعدمة، ولولا صوت الرصاص الذي كان يأتي من مناطق قريبة، لقلنا إننا في قرية معظم قاطنيها أموات. كلما تأخر الوقت، كلما ازدادت حدّة إطلاق الرصاص، فاعتقدت أن هناك اشتباكات، لكن مرافقي قال لي إن الأمر ليس كما كنت أتصوّر، وصوت الرصاص ما هو سوى لتخويف العصابات التي تترصد شاحنات السلع القادمة من دول الجوار. فالخليل، حسب محدثنا، منطقة تجارية، وهي بمثابة سوق لجميع الفصائل التي تأتي من كيدال وتمبوكتو وغاو، للتزوّد بالسلاح والمواد الغذائية. بعد العودة، خلدت للنوم بالفناء تحت ضوء القمر، وكان في الحراسة عدد من الرجال المسلحين الذين كانوا يجلسون أمام البوّابة وخلف الجدار الطوبي. الوقت كان يشير إلى منتصف الليل، غير أن صوت الرصاص لم ينقطع، فلم يتركني أنام رغم التعب، ودفعني الأمر إلى النهوض والتوجه نحو كثبان رملية صعدت فوقها لرؤية ما يحدث في الخارج، فإذا بعشرات الشاحنات تمرّ بالمكان، محمّلة بالمواد الغذائية وسلع أخرى. الوقود هو أيضا من المواد التي كانت تدخل الخليل ليلا، وقد شاهدنا عشرات الشاحنات وهي محمّلة به، قادمة من الطريق الذي يربط برج باجي مختار بهذه المدينة المالية. ومع بزوغ فجر اليوم التالي، غادرنا المكان، وذهبنا إلى مقر الحركة العربية الأزوادية للقاء زعماء التنظيم، أملا في التنقل معهم إلى تمبوكتو. لكن، نظرا لوقوع اشتباكات بالصحراء بين قُطّاع الطرق وعناصر الحركة الذين تسللوا بدبابة ''غنموها'' من الحرب مع الجيش المالي، أجلت الرحلة. العصبية القبلية تهدّد دول الجوار وتنذر باتساع دائرة التوتر تنطبق نظرية ابن خلدون التي تحدث فيها عن العصبية القبلية، على منطقة الساحل ودول الجوار مع مالي التي عجزت حكوماتها عن القضاء على أخطبوط التهريب، الذي وجد دعما كبيرا من قبل العديد من قبائل التوارف والعرب. تنقلنا من الجزائر نحو شمال مالي جعلنا نقف أمام حقيقة واحدة، فمحاولات الجزائر خصوصا ومالي لمحاربة الظاهرة، في الوقت الحالي، أمر صعب، لأن درجة القرابة بين العائلات بكلا البلدين جعلت منع التنقل مستحيلا، حيث توجد أكثر من ألفي عائلة مالية فرّت من ويلات الحرب نحو الجزائر وفضلت البقاء لدى أقاربها ببرج باجي مختار وتمنراست، بدلا من العيش بالمخيّم الموجود في تيمياوين. العائلات تجدها تقضي النهار بالخليل، وتعود مساء إلى برج باجي مختار، وقد وضعت حرس الحدود في مأزق. رحلة عبر شوارع الخليل مع سائق لا يتجاوز عمره 10 سنوات همام طفل جزائري، التقيناه في الخليل التي يحبها بقدر ما يحب مدينة برج باجي مختار التي ولد وترعرع بها. جاء في الصباح الباكر رفقة والده، قدّم لنا الشاي، وجلس معنا برهة من الزمن، ثم أدار محرك السيارة، وظل يقودها بالفناء بكل براعة، فطلبت منه التوقف، وأن يأخذني في جولة عبر شوارع الخليل. أخبار مقتل الدبلوماسي الجزائري تبقى غير مؤكدة ٌl صحة المعلومات حول إعدام الدبلوماسي الجزائري، الطاهر تواتي، الذي أعلنته حركة الجهاد والتوحيد، لازالت غير مؤكدة، حيث قال عناصر من الحركة الوطنية لتحرير الأزواد إن إعلان الخبر قد يكون وسيلة للضغط على الحكومة الجزائرية لتقديم الفدية وتحرير باقي الرهائن. من جهتها، ندّدت الحركة العربية الأزوادية بالعملية التي اعتبرتها عملا إجراميا إذا تم تنفيذها حقا، حيث قال زودي بن سالم، ناشط سياسي بالحركة، إن صحة الخبر غير أكيدة، لكن الأمر غير مستبعد لأن الحركة، حسبه، متشدّدة وتستطيع الإقدام على ذلك.