ترتبط بالنّسك الديني مظاهر ثقافية واجتماعية وتاريخية تخضع للتغير والتكيّف، كما يتعرض بعضها للزوال أو تنشأ مظاهر جديدة تصاحب النسك الديني، تكون بفعل السلطة القائمة أو التحوّل الذي يحدث في البنية الاجتماعية. واعتقاد الممارس للعبادات أنّ تلك المظاهر المصاحبة جزء من التعبّد والشعائر، هو الذي جعل الفقهاء والمصلحين يحاولون العودة بممارسة الشعيرة إلى أصلها الأول أو تنقيتها، وهنا يكون الصّدام بين الذين يرون ذلك غير مضرّ بل بعض منه مستحسن والذين يرون ذلك بدعة وخطراً على العقيدة. ولكن بالنسبة للباحثين في مجال الأنثربولوجيا والتاريخ الثقافي والاجتماعي وتاريخ الأفكار، يعتبر ذلك تراثاً ثقافياً واجتماعياً مهمّا ومصدراً لتحليل التحولات التي تحدث في الذهنيات والمجتمع، كما أن ذلك يعتبر رصيداً سياحياً واقتصادياً، وعند بعضهم يشكّل هذا التراث أمناً ثقافياً لهوية الأمة أمام العولمة الجارفة ومحاولة بعض الدول تصدير نمطها الثقافي والسياسي ''الغزو الإيديولوجي''. ومن الشعائر التي تشكل حضوراً روحيا وتاريخياً متميزاً للجزائريين، الحجّ إلى بيت الله الحرام. وبالعودة إلى المظاهر التي ارتبطت بهذه الشعيرة، نجد قوّة الجزائريين في التضامن مع سكان الحجاز حين كانوا يصحبون معهم ما سمي بأوقاف الحرمين ''الصّرة''، وهي مبالغ مالية وبضائع ومنتوجات، كانت تقليداً منذ العهد التركي، وقد استولى الاحتلال الفرنسي على هذه الأوقاف. كما نقرأ تاريخاً لتأثير النخب الجزائرية على الحجازيين والمشارقة، من خلال علمائنا الذين حجّوا وجاوروا الحرمين الشريفين. إنّ رحلة الحجّ والهجرات المتوالية نحو الحجاز، شكّلت نخباً جزائرية في الحرمين، فقد هاجرت عائلة الطيب العقبي المصلح، وبعد هزيمة العثمانيين وقيام الشريف حسين بثورته التي أيدتها فرنسا، ازداد عدد الهجرات. كما هاجر محمد بن علي السنوسي وقدور بن رويلة كاتب وصهر الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ عبدالعزيز الحدّاد، وقد كان هذا الأخير يكتب في جريدة ''القبلة'' التي صدرت بالحجاز وقد كان مديرها محي الدين الخطيب زميله. كانت رحلة الحج عامل استقرار بالحرمين لبعض الذين سيشكلون أحد رموز الحركة الإصلاحية في الجزائر كالبشير الإبراهيمي وابن باديس، كما التقى الأديب أحمد رضا حوحو بالعديد من الشخصيات العلمية في الحجّ، كما جاور الحرمين حمدان الونيسي شيخ ابن باديس ويعتبر الشيخ الأكثر تأثيراً في آراء هذا الأخير الإصلاحية. كانت قوافل الحج قوافل ثقافية واقتصادية في آن واحد، فكان يصحب الحجيج العلماء والفقهاء وطالبو العلم، وهناك محطات يتمّ فيها تكوين حلقات علمية وتجمعّات سنوية في أيام معلومة. كما عرفت ظاهرة ''إعطاء الإجازة العلمية''، فيذكر العديد في سيرهم العلمية أنّ إجازة هذا السند أو ذاك والإجازة في القراءة والفقه، أخذها من العالم الفلاني وهو في رحله إلى الحج أو أثناء أيام الحج ومجاورته للحرمين. كما تتحدث بعض الرحلات الحجازية عن نقل مكتبات بكاملها من الجزائر نحو الحجاز، كمكتبة ''عيسى الثعالبي'' المجاور أخ عبد الرحمان الثعالبي، وقد استفاد منه ومنها العياشي صاحب الرحلة المعروفة. [email protected]