هناك إرادة سياسية لإبعادنا عن واقعنا بن فطاف توقّف عن الكتابة منذ أن توقّفت عن توجيهه لا أرى أي مشروع ثقافي حقيقي في بلادنا لم يكن الوصول إلى بيت مدير مسرح ''الفوسطو''، زياني شريف عياد، الكائن بأعالي بوزريعة في الجزائر العاصمة صعبا.. فاللون الأخضر الفاتح الذي ترتديه واجهة ''فيلاته'' كان دليلنا، تماما مثلما كان، ولا يزال، دليل تميّزه عن بقية جيرانه، فالرجل فنان حقيقي، وولعه بالفن يسكن روحه وجسده، ويتجلى في كل زاوية من زوايا مضافته التي استقبلنا فيها بكثير من اللباقة، ونفحات النسيم الصباحي العليل تلامس وجوهنا وأيدينا. بمجرد أن تدخل بيت المسرحي زياني شريف عياد حتى يتراءى لك متحفا صغيرا، تعيدك جدرانه وأركانه إلى زمن الفن الأصيل تارة، وزمن المسرح الجميل تارة أخرى، فهنا لوحات تشكيلية متعددة الأشكال والأحجام، وهناك صور لبعض عمالقة المسرح الجزائري ممّن عاصرهم وتعامل معهم. ومع أن سحر المكان لا يقاوم، إلا أننا لم نطل التأمل والإمعان فيه، حتى لا نهدر الكثير من الوقت القليل الذي خصنا به الرجل، فدردشة مقتضبة كانت كافية لمعرفة أحواله، قبل أن يسترسل في الحديث عن أولى مراحل حياته، قائلا إنه من مواليد 15 جانفي 1948، بتلمسان، وتحديدا بحي ''رياض الحمّار'' الذي غادره رفقة عائلته، باتجاه مدينة سيدي بلعباس، وهو لا يتخطى عتبة الثامنة. وهناك، يضيف زياني شريف، زاولت تعليمي وتحصلت على شهادة البكالوريا، لأشد بعدها الرحال إلى الجزائر العاصمة، حيث التحقت بالمعهد العالي للفنون الدرامية والكوريغرافيا، ببرج الكيفان (المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري حاليا)، وتخرجت منه بشهادة ممثل، بحكم أن التمثيل هو التخصص الوحيد الذي كان يُدرّس آنذاك، إلى جانب الرقص، خلافا للتخصصات العديدة التي تعزز بها المعهد فيما بعد، مع العلم أنني خرّيج أول دفعة، وقد كان ذلك من 1966إلى 1969. ولأن الخدمة الوطنية واجب وطني، فإن مضيفنا لم يُقصّر في أداء واجبه نحو وطنه، إذ كانت محطته الأولى شرشال ثم ورفلة، حتى انقضاء الأشهر ال24 المعمول بها وقتها، أي طيلة الفترة الممتدة ما بين 1969و1972. ولأن الزواج أيضا نصف الدين، فإن محدثنا أبى إلا أن يكمل نصف دينه، فهو زوج لمحامية من البليدة، وأب لثلاثة أبناء، هم آسيا (طبيبة)، شكيب (طيار) وسارة (متخصصة في السياحة). كذبة ''بيضاء'' أنجبت فنانا صمت زياني شريف عياد هنيهة، ثم أخذ يستحضر وإيانا أحد مقالبه الطريفة، بالقول: ''بعد نيلي شهادة البكالوريا، لم أجد مخرجا أمامي سوى الكذب على عائلتي، فقد أوهمت والديّ، طيلة سنتين، بأنني التحقت بالعاصمة للدراسة في الجامعة، بينما كنت أتلقى دروس التمثيل بمعهد برج الكيفان. فوالدتي صليحة بلخوجة ووالدي زياني شريف البشير، رحمهما الله، كانا محافظين، ولو أطلعتهما على الأمر، منذ البداية، لما استساغاه حتما''، مواصلا: ''لما أخبرتهما بالحقيقة لم يهضما الفكرة، واكتفيا بالتزام الصمت، غير أن الأمور سرعان ما تغيرت كليا، فطريقة حديثي عن المسرح أخذت تقنعهما تدريجيا بأن المسرح مهنة كبقية المهن، وأنه وسيلة فعالة وبمقدورها إفادة المجتمع، كما أن الشهرة الإعلامية التي حققتها بدأت تروقهم''. وتابع: ''أنا لا ألوم والديّ على نظرة الازدراء التي كانا يوليانها للممثل. فالتمثيل، حسبهما، عبارة عن تهريج، وذلك لا لشيء سوى لغياب ثقافة المسرح لديهما، ولدى عائلتي الكبيرة التي لم تنجب فنانا سواي''. اللغة الفرنسية هي فرنسا! وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث حول عائلته الكبيرة، التي يتقاطع نمط معيشة أفرادها مع أبطال رواية ''الدار الكبيرة'' لمحمد ديب، على حد تعبيره، بمن فيهم إخوته زكية، فاطمة، نوال، عبد الرؤوف، نصير، رضا، رشيد وزكرياء، بدا مضيفنا متشوقا لاستذكار أيام زمان، أيام مرحلة الثانوية التي يقول عنها: ''في الثانوية، احتككت وزملائي بالعديد من الفرق الفرنسية التي عرّفتنا بمسرح ماريفو وموليير، كما إن أستاذ الإنجليزية كان يدرّسنا هذه المادة بواسطة المسرح، ناهيك عن العروض التي كنا نتسابق لمشاهدتها، فيما يعرف، حاليا، بالمسرح الجهوي لسيدي بلعباس''، مستطردا: ''منذ ذلك الوقت، تأثّرت بالأدب العالمي وتعلّقت بالمسرح، حتى صارا جزءًا لا يتجزأ مني. رغم أنني، في البداية، كنت أنساق وراء هذا العالم الجميل لما فيه من سحر وجاذبية، إذ لم أكن أخاله يوما أن يصبح مهنتي''. واعترف زياني شريف بأنه عند التحاقه بمقاعد المدرسة الفرنسية، كان يعتقد بأن اللغة الفرنسية لا تتحدث سوى عن فرنسا، لكنه سرعان ما انتبه لوجود أقلام جزائرية تكتب الرواية باللغة الفرنسية وبروح جزائرية، الأمر الذي جعله يستوعب فيما بعد العبارة الشهيرة لكاتب ياسين''اللغة الفرنسية غنيمة حرب''. كاكي سبب وجودي بالمقابل، أقرّ محدثنا بأن المسرحي الراحل، ولد عبد الرحمن كاكي، هو صاحب الفضل في وجوده كممثل ''ففي البداية، لم أكن أشعر بقربي من المسرح. صحيح أنني كنت مشاهدا جيدا، إلا أنني كنت أحسّ بالاغتراب حيال العروض المقدمة آنذاك''، في إشارة منه إلى انبهاره بمسرحية ''ديوان الفرافوز'' التي اقتبسها كاكي عن نص ''العصفور الأخضر'' لكارلو فوزيه. رغم مقاطعتنا له ما بين الفينة والأخرى، بغية استدراجه للبوح ببعض النقاط المهمة، كأسباب استقالته من المسرح الوطني الجزائري، ودواعي خلافه مع المدير الحالي للمسرح الوطني، امحمد بن فطاف، وكذا دوافع تهميشه من طرف وزيرة الثقافة، خليدة تومي، بيد أن جلّ محاولاتنا باءت بالفشل، حيث إن زياني شريف عياد فضّل كشف هذه الأوراق في ختام اللقاء، فكان له ذلك، حين راح يسهب في الحديث عن مثله الأعلى ولد عبد الرحمن كاكي، معترفا: ''لقد تعلمت منه التحلي بروح الفرقة والذوبان في العمل الجماعي، بعيدا عن أي شكل من أشكال الفردانية، فالبطولة كانت منعدمة لديه''. ويرى مضيفنا أن نصوص كاكي تقترب من الشعر الملحون، بالنظر إلى الشاعرية التي تتمتع بها، وهو ما يعكس تأثره البالغ بمسرح بريخت الذي يتعانق فيه النص بالغناء والموسيقى، معقبا: ''كاكي عرف كيف يقتبس نصوص بريخت، فجزأرها إلى درجة تنسى فيها بريخت، تاركا بذلك بصمته الخاصة، والمتمثلة في دمج النظرة الألمانية مع الشكل الإيطالي، لكن بلغة شعبية وقالب جزائري''. دريد لحام مجرد واجهة ديمقراطية يعتقد محدثنا أن معهد برج الكيفان ''لم يُقصّر'' في تعريفنا بأهم المدارس المسرحية العالمية وروادها، فيما ظلت تجارب ولد عبد الرحمن كاكي وكاتب ياسين وعبد القادر علولة غائبة، لا على الصعيد النظري ولا التطبيقي، رغم كونها تحاكي واقعنا المعيش بمختلف أبعاده وتجلياته، وهو ما يحيلنا على طرح أكثر من تساؤل، يقول ثم يجيب: ''لم أفهم إن كانت عقدة أم ماذا؟.. كل ما أدركه أن هناك إرادة سياسية لإبعادنا عن واقعنا، وبما أن المسرح أداة فعالة لفضح هذا الواقع المقيت، فمن البديهي أن يكون ثمة خوف من تدريس تجاربنا التي لا نكاد نسمع عنها إلا في المناسبات والتكريمات!''، مردفا: ''هذا الأمر لا يقتصر على الجزائر فحسب، بل يتعداها إلى معظم الدول العربية، حيث تسود الأنظمة الديكتاتورية التي تكتفي بتشجيع الترجمات والاقتباسات، خوفا من كشف الحقيقة وتعرية المستور''، ضاربا المثل بالرقابة التي يفرضها النظام السوري على أعمال الكوميدي الشهير دريد لحام ''فحافظ الأسد لا يسمح له بتقديم أي عمل، حتى يطلع على فحواه. لذا، فإن دريد لحام مجرد واجهة ديمقراطية صنعها النظام ليس إلا''. راهن مسرحنا يدعو إلى الشفقة لم يتوان مضيفنا عن نقد ما آل إليه المسرح الجزائري، اليوم، أي بعد 50 عاما على الاستقلال، موضحا أن المراحل الحالكة التي مر بها كانت كافية للارتقاء به إلى مصاف العالمية. وقال: ''راهن مسرحنا يدعو إلى الشفقة، فبعد الجرأة الكبيرة التي كان يتميز بها في طرح المواضيع والقضايا الحساسة، ها هي تلك الجرأة تتلاشى يوما بعد يوم، إلى أن أُفرغ المسرح من شكله ومحتواه''، مستشهدا ب''فلسطين المخدوعة''، ''حسن تيرو''، ''الغولة''، ''لجواد''.. وما إلى ذلك من العروض التي ستظل محفورة في ذاكرتنا، بعد أن صنعت تاريخ مسرحنا، حسبه. وربط زياني شريف تدني مستوى أعمالنا المسرحية بتراجع قوة الإبداع الناجمة عن فقدان حب المسرح، معتبرا الهشاشة التي لحقت بالحاج عمر، علال المحب ومصطفى كاتب، على وجه الخصوص، وراء إفراغ المسرح من شكله ومحتواه. وبالتالي، الترحم على عصره الذهبي. وأضاف: ''دخلت المسرح الوطني في 1972، وشاركت في عدة عروض، منها ''سكة سلامة''، ''حسن الطاكسي'' و''يا الأخ راك متسلل''، ومع عدم استساغتي للنصوص المقترحة ومخرجيها، خلعت عباءة التمثيل وارتديت عباءة الإخراج التي شهدت ميلاد ''الحمامات'' سنة 1980، وهو أول عمل مسرحي لي كمخرج، تلته ''قالوا لعرب قالوا'' و''الحافلة تسير''، وكذا ''الشهداء يعودون هذا الأسبوع'' الذي كان آخر أعمالي على ركح بشطارزي''. أنا مسؤول إذن أنا أقرر وعن علاقته بالمدير الحالي للمسرح الوطني، امحمد بن فطاف، توقف زياني شريف عياد عند ''مسرح القلعة''، وهي تعاونية مستقلة، أسسها رفقة صونيا وعز الدين مجوبي وامحمد بن فطاف، حيث أنتجوا ''العيطة''، ''فاطمة''، ''ألف تحية لعرفية''.. وغيرها. وفي سنة 1992، يقول محدثنا، اضطرني تردي الوضع الأمني في بلادنا للالتحاق بالضفة الأخرى، فكانت فرنسا وجهتي، وهناك جددت صلتي بالخشبة، بعد انقطاع دام سنة كاملة، ليلتحق بي بن فطاف الذي كان يكتب باقتراح مني، بدليل أنه توقف عن الكتابة منذ أن توقفت عن توجيهه. وبخصوص أسباب استقالته من بناية ''بور سعيد''، أوضح مضيفنا أن وزير الثقافة الأسبق، عبد المجيد مزيان، عرض عليه منصب مدير في 1985، لكنه رفض واكتفى بمنصب مدير فني في 1986، تاركا الإدارة لسعيد بن سالمة ''فأنا أعشق الإخراج، وما يهمني فعلا هو توفير الإمكانات لا الكرسي، علما أنني صاحب فكرة إنشاء مهرجان وطني للمسرح المحترف''. ليرمي بعدها المنشفة ويستقيل في 1988، معبّدا بذلك الطريق أمام مصطفى كاتب للعودة، قائلا: ''استقلت من الخشبة الجزائرية لأنني لست دمية في يد الإدارة، وأُبعدت عنها لأنني لست منافقا، فأنا أرفض أن أُوجّه أو يُملى عليّ دفتر شروط''. وواصل: ''لقد كنت ومازلت مقتنعا بفكرة أنا مسؤول إذن أنا أقرر. صحيح أن وجود الإدارة ضروري، لكن ليس إلى درجة الرضوخ لجميع تعليماتها، فالإدارة هي التي ينبغي أن تكون في خدمة الفنان وليس العكس''. حرب باردة غير معلنة من جهة أخرى، أعاب زياني شريف السياسة ''العقيمة'' التي تنتهجها وزيرة الثقافة، خليدة تومي، هذه السيدة التي تعتبر نفسها هي الثقافة، على حد قوله، مضيفا: ''لا أرى أي مشروع ثقافي حقيقي في بلادنا، فكل ما يقام هنا وهناك لا يتعدى إطار الشكليات''، قبل أن يتساءل: ''أين هو المسرح المحترف؟.. أين هي السينما الجيدة؟.. أين هي الأفلام والمسلسلات الهادفة؟.. أين هو الفن الراقي؟.. أين هو التكوين؟.. أين هو الإنتاج؟.. أين.. وأين.. وأين..؟.. إنها ملايير تُهدر باسم الثقافة، لكن لا أثر للثقافة الفعلية في زمن الرداءة''، في تلميح منه إلى وجود حرب باردة غير معلنة بينه وبين الوزيرة، أسفرت عن إقصائه من مختلف التظاهرات الثقافية. داهمنا الوقت بسرعة البرق، فودّعنا مدير مسرح ''الفوسطو''، وبجعبته الكثير ليقوله، مثلما بجعبتنا الكثير لنكتشفه...