؟ الحلقة الثانية والأخيرة إن تجذّر روح الكراهية لدى فئة من الفرنسيين وتشبعها بالعنصرية تجاه كل ما هو جزائري، بسبب ترسخ ثقافة التعالي وتأثير عمليات غسل المخ التي تعرضت لها خلال عقود طويلة من الزمن، هي أيضا إفراز مباشر لعقدة التفوق التي آمنت بها بكل سذاجة، ومن ثمّ يمكن اعتبارها ضحية اعتقادات فاسدة متجاوزة. ومازالت أعداد كبيرة من غلاة اليمين واليسار ممن مارسوا ويمارسون مسؤوليات سياسية عليا في هرم السلطة بفرنسا، تعاني من رواسب ذلك الماضي الأسود والأحلام الوهمية المحبطة والحنين إلى أكذوبة الجزائر فرنسية، مبرهنة بذلك على فشلها في التخلص منها، بل ما انفك العديد من المنتمين لهذه الفئة يرفعون راية العداء للجزائريين عالية ويطالبونهم بعدم النظر إلى المرآة العاكسة حتى لا يطلعوا على تاريخ بلادهم الاستعماري الوحشي، بل والسكوت عن إساءاتهم المتواصلة ومحاولة جرهم للقول: عفى الله عما سلف. أما استرسالهم في إطلاق الإهانات الجارحة، فهدفه الانتقام من الجزائريين الذين ألحقوا بقواتهم العسكرية هزائم مهينة، والتشبث بفكرة أخذ الثأر، لأن روح الحقد متأججة في نفوسهم، والفكر الاستعماري مازال يحافظ على جيناته حية ترزق تعيش وتتكاثر في منحنيات لا شعورهم. وبناء على ما تقدم، أهيب بنخبنا الوطنية ومجتمعنا السياسي والمدني أن يتصدوا لهذا الفكر المهتلك بمختلف الطرق، بذكاء وتبصر لتجنب الوقوع في الأفخاخ وتلافي السقوط في الشراك الخداعية التي نصبت وتنصب وستنصب للجزائر. فيجب أن لا نستجيب لهم بابتلاع هذا الطعم المسموم! بل تركز كل الجهود لتوثيق جرائم الاستعمار الفرنسي بكل تفاصيلها وتصحيح الأخطاء والتشوهات التي أصابت تاريخنا والتوقف عن ترديد التحقيرات بسذاجة تدمي القلب وتؤلم العقل وتجرح الوجدان وتحبط الروح المعنوية وتنفر الأجيال من الافتخار بأمجاد وطنها وانتصارات أسلافها الأبطال، وتضعف شعلة حب الوطن وتنقص من جذوة الاعتزاز بالانتماء إليه والاستعداد الدائم للدفاع عنه. إن تشبّع جماعات قليلة من أبناء الوطن باللغة وبالثقافة الفرنسية وانبهارها بحضارتها وانجذابها لها والسير في مدارها، اعتقادا منها بأن غرس بذورها واستنباتها في تربة بلادها الخصبة والمراهنة على إنتاجها الغزير وإدرارها الخير الكثير، متجاهلين أن أرض الجزائر لا تنبت فيها تلك البذور، وإن نبتت وأنتجت ثمارا بفضل تعديلها جينيا، فإنها لا تستهلك من طرف أبناء جلدتهم، وبذلك يضيع الجهد والوقت والمال هدرا، ومن ثمّ يستوجب عليها إسقاط تلك الأفكار وعودة الناشطين من هذه الشريحة إلى أحضان الجماعة الوطنية والانضمام الجماعي للنضال في صفوف المجتمع السياسي والمدني وفي مؤسسات الدولة للدفاع عن الحقوق الوطنية المتنكر لها. إن خوض أي معركة سياسة أو عسكرية، يتطلب تأمين عوامل النجاح واختيار الوقت المناسب لشنها، وأحسن الأوقات عندما يقتنع الفريقان المتنازعان أن خسائرهما المادية والبشرية والسياسية، أمست جسيمة بسبب ذلك النزاع الساخن أو البارد. فذلك هو الزمن الملائم للحوار من أجل إيقاف النزيف بالتنازل المتبادل وبالتخلي عن العناد وركوب الرأس وبتوفير الأجواء الودية التي تسمح بتصور الحلول المقبولة للمشاكل المتراكمة بالتراضي، لتثبيت استمرارية تكامل المصالح والتعاون المتوازن، وبالمضي قدما إلى الأمام وبتجاوز الحساسيات التي منعت إنزال الملفات الساخنة التي بقيت معلقة تنتظر الحلول في رفوف الأرشيف عقودا من الزمن، إلى موائد المفاوضات وإيجاد حلول لهذه القضايا ومنها المرتبطة بالاعتراف بالكبائر المقترفة ضد الجزائر. فالسياسة فن تحقيق الممكن والمستحيل أيضا، خاصة في عصر العولمة. إن الاعتراف الكلي الفوري لا يتم إلا من موقع قوة مادية كانت أو معنوية، أو حيازة أوراق قوية ضاغطة أو بتحقيق توازن القوى، وهو بدوره حينئذ يحقق توازن المصالح والعلاقات الندية ويؤسس للتعاون الدائم والاحترام المتبادل. إن موازين القوى، حاليا، تميل وترجح في أغلبها لصالح الخصم، وستصبح متوازنة أو متقاربة التعادل إذا خرجت بلادنا من المطبة التي سقطت فيها منذ ثلاث عشريات وكسبت رهان النمو وارتقت إلى رتبة نمر إفريقي : اقتصادي، تكنولوجي، مالي، علمي، صناعي، إنتاجي، وباتت ديمقراطية حقيقية لا تباع فيها الولاءات والذمم والمقاعد والمناصب ولا تشترى، بل تمنح بالمجان للحائزين على: الذكاء، العبقرية، الكفاءة، التبصر، المهارة، القدرة، الإرادة، السلوك المستقيم، القدوة الحسنة وتقديس المال العام. وغدت تملك نظاما سياسيا مرتكزا على تعددية حزبية ممثلة، يختار فيها الشعب عبر صناديق الانتخاب حكامه ونوابه ورؤساء بلدياته من الأذكياء الذين يبلغ عددهم في بلادنا 720 ألف أي نسبة 2% من بين 36 مليون جزائري، هم الآن مشتتون، منهم المقيم المهمش المعاقب على ذكائه، فلم يجد مخرجا من محنته إلا الفرار والارتماء في أحضان مافيا السوق الموازية وتفرعاتها الأخطبوطية! ومنهم المدجن والمقولب المسخر للتصفيق وبيع الولاء والمدح لمن يدفع أكثر! ومنهم المصدر لبلدان العالم المتقدم بالمجان وبلا مقابل، فلم يجد بابا للخروج من ورطة الغربة التي دفع إليها إلا الاندماج القسري بالبلد المهجر إليه لضمان لقمة عيشه والانخراط في مؤسساته العلمية والبحثية والصناعية وتقديم مواهبه لها على طبق من ذهب والمشاركة في زيادة ازدهار اقتصادها! إن الواحد من هؤلاء الأذكياء يعادل ألفا، لو ننجح في إرجاع المهجر، ونفك قيود المدجن والواقع بين مخالب التجارة اللاشرعية ونجيش الجميع ونعينهم في المناصب التي يستحقونها ونمنحهم حرية المبادرة للنهوض بالاقتصاد الوطني، بتصور الحلول للمعاضل المزمنة التي أصابته في مقتل والتي يقال عنها بأنها استعصت على الحل ولم تستجب لمختلف أنواع العلاج منذ أكثر من ثلاثة عقود مثل: انهيار قيمة العملة الوطنية، انخفاض الإنتاج خارج أثداء الحواسي، ارتفاع الأسعار، نهب المال العام، البيروقراطية، التلوث، اختناق حركة المرور، رداءة الخدمات، تدني مستوى التعليم، تآكل الأخلاق وانهيار القيم . إن تلك العصافير الجزائرية الذكية المهجرة والمدجنة والعاملة في السوق السوداء، تشبه آلة الدينامو، تمتلك القدرة على تكثيف الطاقة الدافعة وتحريك الجماهير وقيادتها بكفاءة نحو تحقيق النمو وإنتاج الثروة بالعرق والجهد والفكر والذكاء. إن الخروج من الأزمة متعددة الأوجه التي تجتاح الجزائر حاليا، يكمن في صندوق نظيف وإرادة صادقة في الإصلاح، وتعيين كفاءات لا غبار عليها. وبتكاثف جهود المنتخبين والمعينين وتوفر حرية المبادرة، سوف يتمكنون من تحرير البلاد والعباد من اللصوصية والجريمة المنظمة، الاقتصاد المتوحش الطفيلي، الإنتاج المتدني خارج ثدي حاسي مسعود البالغة نسبته2% فقط؟! سوء التسيير، استنزاف الموارد المالية للخزينة العمومية تحت ستار تضخيم تكلفة المشاريع وهو ابتكار شيطاني عجزت مؤسسات الدولة عن حل طلاسمه وتفكيك شبكاته الأخطبوطية؟! استيراد نفايات العالم تحت مسمى سلع وتجهيزات وإجهاض مخططات أصحاب الأموال المنهوبة للسطو على مرافق الدولة وتخصيصها، قطع دابر الكسب غير المشروع، ترويض غول البيروقراطية ومحاصرة هذا البعبع القاتل لكل ما هو حي، إنسانا، نباتا وحيوانا؟! يومئذ سننال رضى دول العالم ونفتك احترام شعوب الدنيا، وينطلق آنذاك الرأي العام العالمي يكيل لبلادنا المدح والتقدير والإعجاب والإكبار، مثلما فعل خلال ثورة نوفمبر المجيدة في الماضي البعيد وكما تعامل مع ماليزيا، سنغافورة، الصين، البرازيل، جنوب إفريقيا في الماضي القريب، ويتصرف حاليا مع تركيا. وإذا نجحت بلادنا في تحقيق النمو والتقدم المطلوبين وهو ممكن، ستذعن فرنسا وتعمل بجدية على إذابة الجليد المتراكم الفاصل بين البلدين وتسرع الخطى للتقرب منا وتطلب ودّنا وتربط معنا علاقات مصلحة دائمة متوازنة، وتلجم غلاتها وتفرمل تجريحاتهم واستفزازاتهم، وتتوقف عن مناوراتها ومكائدها وسيتوقف عندنا هواة السياسة عن ديماغوجيتهم ومزايداتهم السياسوية وينسحب المتاجرون من الباطن عن الاستثمار في حقل العواطف والتلاعب بالعقول، وتدور الدوائر على الذين احترفوا الضحك على ذقون العامة من الناس، والعاملين على استدراج الجزائريين وتدجينهم ليصيروا قابلين للدغ عدة مرات من جحر وصندوق واحد! وجعلهم متقبلين للرداءة والغش والانخداع والاختناق الاختناق بالغازات السامة الملوثة للبيئة البرية، الجوية والبحرية. وخلاصة القول، أن مواجهة ما صدر في الماضي والذي سيصدر مستقبلا من إساءات من فئة من الفرنسيين الغلاة المتطرفين من اليمين واليسار، يجب أن يكون بالفعل المدروس العواقب جيدا، لا برد الفعل العاطفي المرتجل المتشنج، المنتج للجعجعة دون طحين! وتجنب أضراره وانعكاساته وتداعياته السلبية العديدة، وأن يشارك في هذه الحرب الباردة، المجتمع الوطني: السياسي والإعلامي والنخبوي ومراكز الدراسات والبحث، كل حسب اختصاصاته وإمكاناته بتنسيق تام وتكامل محكم وتناسق مطلق وأن يجتهد الجميع في ابتكار طرق خلاقة يقنعون بها السياسيين والنخب الفرنسية عموما والحكام أصحاب الحل والعقد خصوصا، بأن الجرائم والمذابح والإساءات والتشويهات والتحقيرات المرتكبة من قبل المؤسسات الرسمية لبلادهم ضد وطننا وشعبنا في الماضي البعيد والوسيط والحديث والراهن، لا يمكن تبريرها ولا نسيانها بسهولة كما يتصورون، دون مقابل سياسي ومعنوي واقتصادي، ولا تستطيع الأيام والشهور والسنون والعقود وحتى القرون محو آثارها الشديدة المختلفة الأشكال في آجال قصيرة، وما عليهم إلا إبداع رؤى جديدة تحمل في مضامينها حلولا مبتكرة يمكنها امتصاص شحنات الغضب المتراكمة، وتخفض من الأعباء والأثقال النفسية والمعنوية التي تؤلم الذاكرة التاريخية الجماعية لكل الجزائريين الناتجة عن المظالم الكبرى التي تعرضت لها الجزائر أرضا وشعبا خلال 132 سنة دون تلكؤ ولا تثاقل ولا مراوغات ولا تسويف ولا إهدار للوقت بذرائع مختلقة غير مقنعة، وتركز كل جهودها في الحاضر والمستقبل على إعادة علاج الجراح وترميم ما تهدم من جسور التواصل والتعاون وتجديد بعث الحياة بالعلاقات الندية المؤسسة على تبادل المصالح بتوازن مقبول من الطرفين. وأن تمدّ فرنساالجزائر بالمعارف والتكنولوجيا وتحصل منها في المقابل على الأعمال والطاقة الأحفورية والشمسية وأن تتعاون معها دون مقاصد خفية، بل بسلامة نية في إطفاء نار الحرب الباردة المشتعلة بين الطرفين وتحويل السلبيات إلى إيجابيات والتوقف عن الاستثمار غير المجدي في نظرية الانتظار حتى يموت الكبار وينسى الصغار؟! والاقتناع بأن حركة التاريخ تحكمها جدلية المواجهة والمصالحة، وإسقاط الحجج الواهية التي تتذرع بها فرنسا للتملص من الاعتراف. إن تحالف وتضافر جهود الرداءة وسوء التسيير ونهب المال العام والبيروقراطية والفساد. أدى إلى تجريد وطننا العملاق من عناصر قوته الفعالة، التي لو توفرت له فرص استخدامها ببراغماتية وعقلانية وكفاءة لحققت له النصر المبين في مختلف مجلات التنمية وفي أقصر الآجال وبأقل الجهود وأخفض التكاليف، ولنجا من الهزيمة التي دفع إليها دفعا، والتي شملت نتائجها السلبية مجالات: السياسية، الاقتصاد، الاجتماع، التعليم، الأخلاق والقيم والديمقراطية. سيحاسب من صنع هذه الآفات الفتاكة الخمسة، حسابا عسيرا أمام محكمة التاريخ طال الزمن أم قصر. وفي الختام، أطلب من القراء الكرام موافاتي بملاحظاتهم على موقعي الإلكتروني. http://www.ramdanimohamed.com