بقلم: الدكتور عبد الحميد الأنصاري مثل هذه الإساءات ستتكرر وستزداد وستتنوع في وسائلها ومظاهرها ضد رسولنا وقرآننا وضد المسلمين عامة، لذا علينا أن نكون على مستوى المواجهة والتحدي بأن نتحكم في ردود أفعالنا ولا ننزلق إلى أعمال تسيء إلى سمعة الإسلام وتضر بالمسلمين وتتسبب في التأثير على علاقاتنا الخارجية. أصبح بمقدور أي تافه وحقير من الحاقدين على الإسلام ونبيه الكريم والكارهين للمسلمين في الغرب وأميركا أن يحقق شهرة إعلامية واسعة ويصبح مليونيراً، بطريقة سهلة وسريعة، إذ كل ما عليه أن يصنع فيلماً مسيئاً للإسلام أو يصدر كتيباً يطعن في دين المسلمين أو ينشر تصريحاً فيه بذاءات عن المسلمين، لقد فهموا اللعبة وأجادوها وأدركوا أن العرب والمسلمين يكررون أخطاءهم، لذلك يسهل توقع تصرفاتهم ومعرفة كيفية ردود أفعالهم ومن ثم التعامل معهم. وفي هذا السياق هناك مقولة مشهورة لموشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق _العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا فإنهم لا يستوعبون، وإذا استوعبوا فإنهم سرعان ما ينسون_، وإلا فهل كان ممكناً لفيلم وضيع- تعمد صانعوه بثه في ذكرى مرور 11 عاماً على سبتمبر بهدف تذكير العالم بفعلة بعض المسلمين والإساءة لدينهم- أن يثير كل هذه الاحتجاجات العنيفة التي عمت العالم الإسلامي وتسببت في إسقاط 30 قتيلاً والمئات من الجرحى والإحراق والتدمير للعديد من الممتلكات إضافة إلى توتير العلاقات الخارجية؟! لقد استغل صانعو الفيلم ذلك أحسن استغلال وحققوا أهدافهم كما يقول الصحافي المصري سليم عزوز: (وكأني أنظر إلى موريس صادق منتج الفيلم وهو يجلس في منزله بنيويورك سعيداً، فقد تحقق له المراد أخيراً ونجح في أن يستفز المسلمين)، لقد تعلم كارهو الإسلام من دروس الاستفزاز المتكررة على امتداد عقد من الزمن، واستثمروه في تحقيق أهدافهم بمكر وخبث، ولم يتعلم المسلمون من تلك الدروس كيف يواجهون الاستفزازات طبقاً لتوجيهات الإسلام وتعاليم رسوله الكريم وبما يتفق ومنطق العصر ولغته. تعلم الكارهون أن المسلمين أمة يسهل استثارتها ودفعها للإضرار بنفسها وهذا ما شجع مجلة (شارلي إبيدو) الأسبوعية الفرنسية الساخرة إلى تكرار استفزازها للمسلمين، إذ نشرت يوم الأربعاء رسوماً كاريكاتورية مسيئة للإسلام ورسوله مما دفع فرنسا إلى إغلاق سفاراتها ومدارسها يومي الخميس والجمعة في 20 دولة حماية لها من غضبة المسلمين، لكن مثل هذه الإساءات ستتكرر وستزداد وستتنوع في وسائلها ومظاهرها ضد رسولنا وقرآننا وضد المسلمين عامة، لذا علينا أن نكون على مستوى المواجهة والتحدي بأن نتحكم في ردود أفعالنا ولا ننزلق إلى أعمال تسيء إلى سمعة الإسلام وتضر بالمسلمين وتتسبب في التأثير على علاقاتنا الخارجية. إن الإساءات كلها والحاقدين جميعاً لن ينالوا من رسولنا شيئاً ولن يضروه شيئاً، لقد تعرض رسولنا الكريم في حياته لإساءات كالجبال فما ضرته بل نصره الله تعالى على المسيئين وأظهر دينه، ننفعل سريعاً وتأخذنا الحمية كثيراً وتقودنا العاطفة وينتصر الغضب على العقل فنتسبب في قتل أبرياء واعتداءات على سفارات وإحراق أعلام وإتلاف ممتلكات بحجة نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهل ذلك مما يرضي الرسول والإسلام؟! إننا ننسى، في غمرة الغضب، أن الله سبحانه وتعالى ناصر رسوله وحامي دينه رغم كيد الكائدين ومكر المستهزئين، فهو القائل عز وجل لرسوله (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)، أي بحفظنا ورعايتنا في مواجهة المكائد والإساءات، كما تكفل عز وجل بالدفاع عنه (إنا كفيناك المستهزئين) ولو اجتمع الأعداء على أن يضروا الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن الكريم، ما استطاعوا فقد قال عزوجل (والله يعصمك من الناس) وقال (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). على امتداد 12 عاماً من الإساءات المتكررة للإسلام، كتبت العديد من المقالات المنتقدة لردود الفعل غير العقلانية التي أضرت بالمسلمين، من أبرزها: (هل نقاطع أميركا؟(، (قاطع منتجاً تجوع مسلماً!)، (وقفة مع الدعوة لمقاطعة سويسرا)، (حظر المآذن في سويسرا: الفعل ورد الفعل)، (دعوة إلى عقلاء القوم قبل الكارثة)، (المسلمون ومنع الإساءة إلى الأديان)، (يوم الغضب: ماذا فعلنا بأنفسنا؟)، تصديت في هذه المقالات ولعلي كنت الوحيد في المجتمع القطري الذي تصدى وعارض مسيرات وفتاوى ودعوات مقاطعة البضائع الأميركية والسويسرية والدنماركية التي نظمها وحرض عليها وقادها مشايخ ورموز ونشطاء الإسلام السياسي في الخليج والمنطقة العربية. كانوا هم قادة المظاهرات العنيفة ومهيجي الجماهير الغاضبة وسادة الميادين والشوارع العربية ونجوم الفضائيات المحرضة وخطباء المنابر الملتهبة، يصدرون الفتاوى بتحريم التعامل مع المنتجات الأميركية والغربية ومقاطعة (الكنتاكي) و(البرغر) وتحريم شرب (البيبسي) و(الكولا)، كانوا ينشطون في إعداد قوائم سوداء يجب مقاطعتها وأخرى بيضاء يباح شراؤها، وقفت في وجه كل هؤلاء مبيناً أن ردنا يجب أن يكون عقلانياً ويجب أن نتحكم في ردود أفعالنا فلا نضر بأنفسنا ومصالحنا ونتسبب في خسائر للتجار ورؤوس أموالنا، فكانت المعارضة لآرائي شديدة والاتهامات لشخصي كبيرة، وأذكر أن فيصل القاسم دبر لي مكيدة ونصب لي فخاً للإساءة إلي وتشويه صورتي في برنامجه (الاتجاه المعاكس)، إذ استضافني وسلط عليّ 5 من دعاة المقاطعة للهجوم عليّ وتشويهي، لكن المولى نجاني ونصرني فله الحمد والمنة. حرصت في هذه المقالات على تأكيد أن الغضب مشروع والاحتجاج مطلوب والتظاهرات ضد الإساءات مبررة، فلا يوجد مسلم يرضى بالإساءة إلى دينه فكيف إذا مست الرسول الأعظم، محمد صلى الله عليه وسلم خير البرية وخاتم الأنبياء والمرسلين والذي وصفه المولى عز وجل بأعظم وصف (وإنك لعلى خلق عظيم)؟ لكن الغضب والاحتجاج إذا انفلتا إلى تطرف، والتظاهرات إذا أضرت فلابد من وقفة للمراجعة والترشيد والتبصر، تساءلت في هذه المقالات: لماذا سمحنا لعواطفنا ومشاعرنا أن تقودنا للإساءة إلى أنفسنا وإلى علاقتنا بالآخرين، وقلت: (هاتوا لي مبرراً واحداً) شرعياً أو منطقياً أو مصلحياً- لمعاقبة شعب بأكمله بفعلة صحيفة سيئة أو حماقة موتور ضد الإسلام؟! كما أكدت أن أضرار المقاطعة ستكون علينا أكثر من الطرف الآخر ولن يستفيد منها إلا دعاة الكراهية والتحريض والصدام الحضاري عندنا وعندهم، لكن الرأي العام المجتمعي في قطر والخليج والمنطقة العربية كلها كان مشحوناً بالغضب وغير مستعد لسماع أصوات التعقل والحكمة والاتزان، اليوم تغيرت المعادلة وبدأت أصوات الذين يطالبون بأن تكون ردود أفعالنا حضارية وعقلانية وأن تكون مبنية على التبصر والحكمة والمصالح، بحيث لا تؤثر على علاقاتنا بأميركا والغرب، بدأت هذه الأصوات تظهر وتبرز عبر المنابر الإعلامية والدينية، خصوصاً من قبل رموز ومشايخ وقادة الإسلام السياسي وجماهيره، سواء في الخليج أو في بلاد الربيع العربي، وهذا ما أسعدني كثيراً لأنه أكد صحة توجهاتي وآرائي التي كنت أنادي بها على امتداد الفترة السابقة، بطبيعة الحال فرجال الإسلام السياسي وقياداته اليوم هم حكام بلاد الربيع العربي، والمصلحة السياسية لهم تتطلب التهدئة والعقلانية وضبط الأمور، وليس من مصلحتهم تأجيج المشاعر وتوتير العلاقات بالغرب وبأميركا، بخلاف موقعهم السياسي حين كانوا في المعارضة في ظل الأنظمة السابقة.