كانت الأديان والشّرائع السّالفة قبل الإسلام تجيء خاصة بعشائر ثمّ بقبائل أو مدن ثمّ بأمم، لأنّك تجد الدِّين الّذي يناسب حال أمّة أو قبيلة لا يُناسب حال غيرها، إلاّ أنّ أصول ذلك كلّه لا تختلف كما أنبأ بذلك قوله تعالى: {شَرَعَ لكُم مِنَ الدِّين مَا وَصَّى به نُوحًا والّذي أوْحَيْنَا إلَيْك ومَا وَصَّيْنَا به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تتَفرَّقوا فيه}، الشورى:13 . وقد صرّحت الأديان السّالفة كلّها والشّرائع السّابقة بتخصيص دعوتها بقوم معيّنين، وحسبك أنّ موسى عليه السّلام مع اختراقه أمَمًا كثيرة في جهات مرور بني إسرائيل في طريق التَّيْهِ قاصدين الأرض المقدّسة، لم يدع إلى اتّباعه غير قومه السّائرين معه. ولمّا جاء عيسى عليه السّلام لم يدع إلى اتّباع دينه غير بني إسرائيل، ولكن أصحابه استحسنوا أن يدعوا مَن سواهم إلى الدخول في المسيحية وأن يعتزوا بدينهم، والأناجيل شاهدة بذلك. وبعض الأناجيل (الإنجيل يعني باليونانية البشارة، والأناجيل مجموعة أعمال المسيح وأقواله وهي أربع روايات وضعها متى ويوحنا وهما من الرسل الاثنا عشر، ونوقى ومرقس وهما من تلاميذ المسيح عليه السّلام)، مثل إنجيل متى يقول: إنّ عيسى عليه السّلام أمر الحواريين بدعوة النّاس إلى دينه حين ظهر لهم بعد رفعه في مرأى غير معتاد، كما أنبأت عنه الفقرة 19 من آخر إنجيل متى. فإذا أخذ ذلك على ظاهره دون تأويل لم يكن بعد حجّة على عموم دعوة عيسى للنّاس كلّهم، لأنّه بصلبه، في اعتقاد النّصارى، وبرفعه في الاعتقاد الصّحيح قد انتهت رسالته، فما ورد بعد ذلك عنه من مراء أو رأي فهو ممّا لا يثبت به شرع، وان كانت الدعوة إلى الخير صالحة، وبهذا الاعتبار يسمّى الدعاة إلى المسيحية رسلا أو مرسلين، كما أشار إليه القرآن في سورة يس: {وَاضْرِبْ لهُم مثلاً أصْحَابَ الْقَرْيَةِ إذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إذْ أرْسَلْنَا إليْهِم اثْنَيْن فكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنَا بثالِثٍ فقالوا إنّا إليكُم مُرْسلون} يس:14، وهم بطرس وبولس ويوحنا. والمراد بالقرية في الآية أنطاكيا (مدينة على العاصي من أشهر أنهار سوريا)، وقد أُرسل إليها بولس الحواري.