صادف- في المدة الأخيرة- أنْ اطَّلعتُ على بعض المقالات تتَّخذ دوما فترة السبعينيات من القرن الماضي موضوعاً لها. لكن القارئ لا يجد فيها ممارسة نقدية تتناول نصوصاً مُحدَّدة، بل هي كتابات تُهَوِّم في فضاء من العموميات وترصف تراكيب إنشائية مشحونة بالكراهية والبُغض. ربما أصبحت السبعينية عقدة لمصابين بأمراض لا علاج لها. فكرتُ مليّاً لعلي أجد تفسيراً لهذه الظاهرة، وخطرت ببالي جملة من التصورات منها: × ليس خافياً أن فترة السبعينيات من القرن المنصرم كان يميزها حضور الخطاب الاشتراكي في الساحة السياسية/ الإيديولوجية، كما حضر الخطاب المعادي في ثوْبه الإيديولوجي/ الديني، ولو أن الإيديولوجيا بقيت- في عرف كثير من المنغلقين- محصورة في الماركسية والشيوعية. وما من عاقل يُنكر أن معظم الكتابات الأدبية كانت من إنتاج شباب متحمِّسين يطمحون إلى مستقبل أفضل، يتغذَّوْن من القيم النبيلة للثورة المسلحة، فمنهم يتامى استشهد آباؤهم أو آخرون استشهد أشقاؤهم أو أقرباؤهم، أو شاهدوا معارك الشهداء، أو نشأوا زمن الحرب وبقيت صورتُها عالقة في مخيلتهم فأبوْا إلا أن يجعلوا منها رمزاً خالدا، ووجدوا في الاشتراكية قيم الأخوة والعدالة والمساواة، كما وجدوا في الكتابة فرصة وشجاعة نادرة لتخليد تلك المآثر. ما جعل معظم الكتابات يتصدَّرها المضمون بوصف الأدب حاملَ رسالة، جمعوا بيْن الأدب والالتزام، ولم تكن وظيفة الأدب -فيما فَهِموا- ترفاً ومتعة فقط. لقد صار هذا المُعطى من البديهيات، فلماذا كل هذا اللغط، وكل هذا الكلام الممجوج؟؟ × وفي الوقت نفسه، هل يمكن لعاقل أن يُنكر أنها كانت فترة ازدهار الحرف العربي، وفيها بدأ تجريب القصة والرواية وصارت مادة لبحوث جامعية اعتمد عليها كثيرون لنيْل شهاداتهم العليا؟؟ فإما أنها مادة صَلُحت لهذا، وإما أن الشهادات التي اتخذتها مادة لها لا قيمة لها منطقيا. وإذا لم تكن تصلح لشيْء أصلا، فهي تصلح- على الأقل- متَّكأ لمن يريد أن يكون شيْئاً، وهذا ما هو حاصل اليوْم في مثل هذه المقالات، بعد ما ينيف عن ثلاثة عقود. × فإذا ذلكم الإنتاج الأدبي لا ترى فيه العيْن العوْراء إلا الجانب الجدانوفي، فإن الجدانوفية كانت محطة تاريخية حتى في الآداب الأجنبية. وما الشكلانيون والبنيويون، حتى ''غولدمان'' وغيره، سوى حلقات في سلسلة واحدة يستند فيها اللَّاحق إلى السابق، في صورة جنين ينمو في رحم أمِّه، ولا قطيعة بين الأم وابنها روحياً إلا إذا كُنا نفتقد الرابطة الروحية في قلوبنا وأذهاننا. ولقد كان الماركسيون سبَّاقين إلى النقد الذاتي، سياسياً وأدبيا وفنِّياً، ولو كرِه أولئك الذين يحملون سيفا إرهابيا في فهمهم دلالة القطيعة فلم يروْا فيها إلا البتْر الشرعي التام. × إن الكُتّاب الذين صارت أسماؤهم مكرَّسة اليوم قد ساروا في هذا الطريق خلال السبعينية، منهم من كان ماركسياً فعلا، ومنهم من ساقته موْجة الفكر الاشتراكي يحدوه الإخلاص للوطن، وكانوا - بدوْرهم- سبَّاقين إلى مراجعة الذات، فاشتغلوا على بنية العمل الأدبي وعلى اللغة ليعيدوا للنص الأدبي أدبيته. ولعلهم تفوَّقوا في الكتابة الروائية أكثر من غيرها، بوصفها جنساً أدبياً عصرياً، كما لم يغيبوا في الشعر أيْضاً، بينما لم نجد ممَّن حملوا الراية الدينية السوداء مَنْ اقترب من الفن الروائي وصنع لنفسه مكانة مميَّزة، ولو عانق ''الخميْني'' شعراً. وهي ظاهرة تستوْجب التأمل والدرس في الأدب الجزائري. × غريب أن يصوِّب هؤلاء سهامهم إلى فترة السبعينيات، وهي لا تمثل سوى عشرية واحدة، انقضى بعدها ما يزيد على ثلاث وثلاثين سنة، مدة هي أطول من تلكم المستهدفة ثلاثة أضعاف ونيِّفاً، ولا تخلو من إنتاج أدبي، فكان أحْرى بهؤلاء المتحاملين أن يركزوا جهودهم لبحث هذا الإنتاج الجديد، عوض أن يلوكوا ملاحظات يعترف بها أهلها قبلهم بكامل الجرأة والصفاء. × لكن المسكوت عنه في المقالات المعنية حقدٌ دفين ضد الماركسية والشيوعية والعلمانية والإلحاد ليس إلاَّ، ولكن أصحابها يجهلون أننا في زمن آخر، أصبحت فيه هذه التوْصيفات مبتذلة، وأن الناس لم تعُد تؤثّر فيهم الخُطب الزائفة، لأن الحكماء من الناس الذين يقرأون ويفهمون أصبحوا يقرنون القول بالفعل. يريد المتَّكئون على السبعينيات، سلْباً، أن يستغفلوا الناس، وأن يزرعوا الوهْم بأنهم موضوعيون لا علاقة لهم بالإيديولوجيا. إنهم يُخْفون نظرتهم الاستعلائية ببهرجة كلامية، وكأن كلاًّ منهم ''هو البازي المطلُّ على نميْر''.. لم يُقنعهم لا انهيار المعسكر الاشتراكي، ولا التحوُّلات الجارية في العالم، ولا النصوص الأدبية التي كانت تُقدِّم المضمون على الشكل، ثمَّ صارت- فيما بعد- من أجمل النصوص، وإني أشك في أنهم سيقتنعون يوْماً، لأنهم يجرجرون أحكاماً جاهزة، يحملون في أذهانهم سرير ''بروكروست''، ذلكم الكائن الأسطوري الذي كان يُحْضر ضحيته إلى سريره، فإن وجدها أطول اقتطع منها، وإن وجدها أقصر مطَّطها حتى تصبح على مقياس السرير. × وما السبعينية في نهاية المطاف؟ إنها قافلة مرَّت ومع ذلك يتواصل الصراخ وراءها، وإذا لم يكن لها من فضل، فمن العار أن يجْحدوا أنها أعطتهم فرصة للصراخ، بينما هناك قوافل أخرى تمر في صمت، وفيها أصوات من السبعينية التي يكرهون. إن هؤلاء الذين تتقاطر كتاباتهم حقداً وضغينة لا تُحرِّكهم الغيرة، فالغيرة إحساس إنساني مشروع حين تكون حافزا على التنافس، ولكنها قد تنحرف نحو الكراهية والحسَد. هؤلاء ليس لهم منافسون ولا خصوم، إنما لهم أعداء ويأملون لو أن أعداءهم في الأدب ما وُجدوا، أو ليتهم اغتيلوا جميعاُ، وربما ندِموا على أنهم لم يتسلَّحوا ليذبحوهم بأنفسهم، لتَخْلوَ الساحة لمن كان نكرة فيصبح معرفة. إذا كُنا نرفض أدب السبعينيات لأنه ذو بُعد سياسي/اجتماعي لا يُرضينا، فسنرفض أدب الحرب أيضاً، ونتنكَّر لجهود مَنْ سبقونا من أمثال عبد الملك مرتاض، والمرحوميْن محمد مصايف، وعبد الله ركيبي، لمجرد أنهم يخالفوننا الرأي، أو لأنهم لم يستثمروا منجزات المدارس النقدية المعاصرة، وهذا عيْن التحامل والتعالي. إن أي قراءة تدَّعي لنفسها الموضوعية لا بد أن تتمَّ في ضوء الأوضاع التي كانت سائدة يومذاك. وما عدا ذلك فسيكون موقفاً إيديولوجيا من إيديولوجيا أخرى، وإن هو تظاهر بالحياد. ونحن أحوج اليوم إلى ممارسات نقدية تستنطق النصوص، لا إلى تهويمات إنشائية، ولا إلى تنظيرات تُنقل من هنا وهناك منبتَّة من جذورها، وتغرق في فوضى المصطل.