تروى الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها الموسوم ''أحلام النساء الحريم.. حكاية طفولة...''، تفاصيل عن حياتها المبكرة في الأربعينيات من القرن الماضي قائلة: ''تقع أكبر القاعات حجما في بيتنا وأكثرها أناقة إلى ميمنة الفناء، وهي قاعة الرجال حيث يتناولون الطعام ويسمعون الأخبار. فالرجال هم وحدهم القادرون على الوصول إلى الخزانة الضخمة التي تحوي المذياع. وكانت الخزانة تقفل بالمفتاح، وقد رُكبت مكبرات صوت في الخارج لتمّكن الجيران من الاستماع. وكان أبي وعمي الوحيدين اللذين يملكان نسخة من مفتاح الخزانة، إلا أن النساء كن يستمعن بانتظام إلى ''صوت القاهرة'' أثناء غياب الرجال. وكانت عمتي وأمي ترقصان، في الغالب، على الأنغام التي يبثها المذياع''. وتستطرد المرنيسي قائلة: ''أتذكر أول مرة وصفتني فيها النساء مع ابن عمي بالخائنين. لقد أخبرنا والدي أننا استمعنا إلى الإذاعة في أثناء غيابه. لقد وشى جوابنا بحصول النساء على نسخة من مفتاح الخزانة. فنشب شجار عنيف، وفُتح تحقيق لاستجواب النساء''. لقد عاشت العديد من المجتمعات العربية مثل هذه الحادثة وإن اختلفت تفاصيلها. إنها تذكّرنا بالتاريخ الاجتماعي للإذاعة وتؤكد أن قرار تشغيل المذياع كان بيد الرجال للاستماع إلى الأخبار، أما النساء فكن يستمعن للأغاني في الإذاعة خلسة. وكانت الغاية من تركيب مكبرات الصوت، إن وجدت، هي إسماع الجيران الأخبار. فمالك المذياع هو الذي يحدد ما يجب أن يُسمع، ومتى؟ لقد تغيرت الإذاعة تقنيا وتبدلت برامجها بتغير رؤيتها لذاتها ولجمهورها والمجتمع. وقد يستهجن البعض هذا التغيير بحكم الحنين للماضي، رغم إدراكهم أن الإذاعة لن تظل على ما كانت عليه. هذا ما تؤكده حفريات علاقة الجزائري بالإذاعة. سجل المفكر فرانز فانون في كتابه الموسوم ''الثورة الجزائرية في عامها الخامس'' أن حوالي 95 % من أجهزة المذياع في الجزائر كانت في يد الأوروبيين في .1945 وظلت النسبة المتبقية في يد بعض الأسر الجزائرية الميسورة والمهاجرين الذين عادوا بأجهزة المذياع إلى أرض الوطن. لكن غالبية الجزائريين في ذاك الزمان لم تكن لهم علاقة بالإذاعة لأنها أقصتهم، واتجهت إلى الأوروبيين المعزولين في الأرياف والبوادي الذين اعتبروها وسيلة مقاومة وهمزة وصلهم بالعالم ''المتحضر''. ويرى المفكر ذاته أن الإذاعة لم تنتشر في وسط الجزائريين في ذلك الزمان، أيضا، لتعارض مضامين برامجها مع قيم الأسرة الجزائرية وعاداتها. فالبرامج التي تضمنت تلميحات غزلية ومواقف هزلية، كانت تخلق جوا من التوتر بين أفراد الأسرة. فالكلمات الدالة على الغرام والوصال، وتلك التي تدفع إلى الضحك أمام الأب أو الأخ الأكبر، تتعارض مع عادات الأسرة الجزائرية وتدل على قلة أدب وعدم احترام كبار البيت. وقد أدركت الإذاعة الاستعمارية هذه الحقيقة، فأصبحت تعلن عن برامجها التي يمكن الاستماع إليها مع كل أفراد الأسرة وأدرجت الموسيقى والأغاني الجزائرية في برامجها وشجعت الجزائريين لأسباب تجارية وثقافية وسياسية على الاستماع للإذاعة، فسمحت لهم بالتجارة بأجهزة الراديو التي كانت حكرا على الأوروبيين. لكن إقبال بعض الأسر الجزائرية على شراء أجهزة المذياع، لم يبدأ إلا في الخمسينيات من القرن الماضي نتيجة الاهتمام بنشرات الأخبار التي كانت تبثها بعض المحطات الإذاعية في الدول العربية التي انتزعت استقلالها. وعندما بدأ صوت الثورة التحريرية ينتشر عبر الإذاعة في نهاية 1956، انتشرت أجهزة المذياع بين الجزائريين رغم تحريم السلطات الاستعمارية بيعها وتجريم شراء البطاريات التي تُشغلها. وأصبح الاستماع الجماعي إلى ''صوت الجزائر الحرة'' عبر الإذاعة، فعلا نضاليا يمارس في الأرياف والقرى. واقتضى انتظار موعد بداية بثه الاستماع إلى بعض الأغاني الغزلية والبرامج الهزلية دون أن يحدث التوتر المذكور أعلاه، فسياق تلقيه أدى إلى بروز عادات جديدة في الاستماع إلى الإذاعة وأسقط بعض التحفظات أو التقاليد. لكن هذه التقاليد عادت من جديد، لتفرض نفسها على الاستماع للإذاعة بعد نهاية حرب التحرير. فالمرأة التي بدأت تتمتع بسلطة تشغيل المذياع حتى داخل الأسر الممتدة، أصبحت تسرع إلى توقيفه إذا كان يبث أغنية عاطفية بمجرد دخول كبير العائلة (الجد أو الأب أو العم أو الأخ الأكبر) أو ضيف. قد يستغرب أبناء هذا الجيل من هذه التقاليد، لأنهم ينعمون بتعدد وسائط تلقي البث الإذاعي، ما يمكنهم من متابعة المحطات الإذاعية التي يحبونها في الوقت الذي يشاؤون ويتبادلون عبرها إهداء الأغانى وأرقام الهواتف ذكورا وإناثا. إنهم يشاهدون اليوم المسلسلات التلفزيونية على راحتهم ولا يأبهون بمن دخل البيت أو خرج. وبقدر اندهاشهم ندرك مدى تغير المجتمع الجزائري.