عندما نستلقي على أفرشتنا الوثيرة والنمارق والبطانيات المنسوجة، أو المحشوة بمادة الصوف، وننام نوما عميقا تسافر بنا الأحلام فيه إلى كل وجهة، أو تسبح بنا خيالاتنا نحو عوالم بعيدة، لا نفكر، ولو مجرد لحظة، ولا نتساءل، ولو مرة واحدة، عن هذا الصوف المريح الذي نتنعم بدفئه وراحته، والذي تتنافس العرائس، عندنا في الجزائر، في كسب أكبر منتوجات من الزرابي وغيرها لتدخل به على بيوت الأزواج. فكيف وصل إلينا أو وصلنا إليه؟ وما قصة جلبه وتحضيره؟ وماذا لقي المشتغلون فيه من عناء وتعب؟ وكيف كانت البداية والنهاية مع الممتهنين في حرفة انتزاع الصوف وجمعه وتسويقه؟ تبادرت إلينا فكرة البحث في مهنة منتزع الصوف من ظهور الماشية، أو من يطلق عليه "الجَزّاج"، من فعل جزّ الماشية، أي انتزاع الصوف منها وقصّه بطريقة معينة، وبواسطة مقص معين وفي وقت معين. تبادرت إلينا هذه الفكرة حين مرت أمامنا شاحنات محملة بمادة الصوف، ومعبأة بطريقة تثير الانتباه، في علوها بأمتار على مستوى الشاحنة، منطلقة من ولاية الجلفة قاصدة عدة ولايات شرقية، وكان سؤالنا عن سر قدوم هؤلاء التجار، في شهر ماي من كل سنة، إلى ولاية الجلفة فيأخذون القناطير المقنطرة من الصوف.. ماذا يربحون ويجنون؟ وإلى من يسوّقون هذه المادة؟ والجميع يجد الجواب في تزويد بعض الورشات بها، لتصنع منها منسوجات متنوعة ومتعددة، كما تتنافس العرائس في جمعها لتنسج منها ما تذهب به إلى عشها الجديد وينفقون في سبيل ذلك الملايين. لكن أسئلتنا استدرجتنا، شيئا فشيئا، إلى مهنة منتزع الصوف من الماشية، وما يلاقيه من متاعب ومعاناة في سبيل افتكاك دنانير معدودة، رغم ما يخرج من يده من بضاعة يتنافس عليها المتنافسون، في جمعها وتسويقها والتنعم براحتها ودفئها، أو التباهي والتفاخر بها، لأن مادة الصوف هي المادة الأساسية الأولية للفراش والغطاء واللباس. كانت انطلاقة البحث بأخذ مواعيد متعددة مع بعض الموّالين، لنحضر معهم العملية، واخترنا المزرعة النموذجية ببلدية تعظميت، جنوبي ولاية الجلفة، حيث قصدناها بعد أن أخذنا المواعيد مع القائمين عليها، لأنها كانت بصدد مواصلة انتزاع الصوف لأزيد من ألف رأس من الماشية، ولدى وصولنا تم تقديم بعض العاملين لنا، ليفصّلوا لنا فيها من بدايتها إلى نهايتها. يقول المتمرسون في عملية جزّ الماشية إن وقتها يبدأ مع بداية شهر أفريل وينتهي مع نهاية شهر ماي من كل سنة، ويمكن لبعض المناطق الحارة أن تبدأ مع نهاية شهر مارس، وتجزّ كل ماشية من الأغنام بعد بلوغ حول كامل، وتتم عملية الحلق أو الجزّ بواسطة مقص بشكل معين، يتراوح ثمنه على مستوى الأسواق ما بين 850 دينار إلى غاية 2500 دينار بالنسبة للسلعة المستوردة، ويشترط، في اليوم المتفق عليه بين صاحب الماشية والعمال، أن يخرج الراعي بالأغنام مع الفجر، ليترك الماشية ترعى وتمشي حتى يتصبب العرق منها ويعود بها بعد ثلاث ساعات، وهي بعرقها حتى يسهل سير المقص في صوفها من جهة ولا يؤلمها المقص من جهة ثانية، لأن سيرها يعتبر تسخينا بلغة الرياضيين. ويفضّل وجود مجموعة من العمال المختصين لا يقل عددهم عن العشرة عمال لكل مائة رأس، تتوزع مهامهم بين قائد المجموعة، الذي يتفق معه الموّال أو صاحب الماشية، ويكون خبيرا في الجزّ، إلى جانب اثنين أو ثلاثة يرافقونه في مهمته، وآخرين مختصين في ربط الماشية من قوائمها، بحبال مصنوعة من الحلفاء وتصفيفها في صفوف ممددة أمام الجزّاجين، ولا بد من اختيار أرضية نظيفة، عادة ما تكون رملية، تمدد عليها الشاة، حتى لا يتسخ صوفها ويسهل نفضه. ويبدأ العامل بالجانب الأيمن للشاة، منطلقا من الرقبة في قص الصوف، نازلا إلى الكتف وسائر الجهة اليمنى حتى يصل إلى ذيلها، ويحبّب أن يضع الشاة على ركبته، من أجل أن يتمدد جلدها أكثر فتسهل عليه عملية الجز، ثم يقلبها على جنبها الأيسر، سالكا الطريقة ذاتها من أعلى الرقبة إلى باقي الجسم. وبمجرد أن يكملها ينادي بأعلى صوته "صلوا على النبي"، فيجيبه زملاؤه، وكافة الحضور، بقولهم "عليه الصلاة والسلام"، ويترك الشاة تغادر من طريق آخر، بحيث لا تمر على باقي الرؤوس المربوطة. وأما ربطة الصوف فيتركها لعمال آخرين متخصصين في تجميع ذلك الصوف المنتزع من الشاة، ويخرجون منه رباطا يربطون به تلك الكومة التي يطلق عليها اسم "الجزّة"، ويلقى بها في مكان نظيف إلى جانب الأكوام الأخرى من الصوف، وهكذا تسير العملية مع باقي الرؤوس، من الساعة الثامنة صباحا إلى غاية الرابعة مساء، تكون المجموعة قد أنهت نحو مائة رأس أو أكثر. وفي نهاية كل يوم يلف العمال مقاصاتهم بقليل من الصوف، لأنه يحفظ لها حدتها كما يصونها من الصدأ، وعلى مدار اليوم لا يبخل صاحب الماشية على العمال بالقهوة واللبن والمأكولات، ويذبح شاة يجعل منها طعام الغداء والعشاء لهم، فضلا عن تسديد أجر العمال بحيث يتقاضى "الجزّاج" ما بين 60 دينارا إلى 70 دينارا للرأس الواحدة. أما المسؤولون عن ربط الماشية وتصفيفها فتحسب لهم أجرة إجمالية تقدر ب600 دينار لليوم الواحد، ويتولى قائد المجموعة قبض الأجور وتوزيعها على مجموعته، التي تتنقل في كل يوم أو يومين ناحية موّالين آخرين. ويفضّل الكثير من الموّالين، بعد عملية انتزاع الصوف من ظهور ماشيتهم تعيينها بإشارات، أو وضع أرقام عليها بواسطة الدهن لتعيينها، حتى لا تضيع وسط مواشي الجيران. كما يفضل الجميع مداواتها بأدوية الأمراض الجلدية، التي تظهر على مواشيهم بعد عملية "الجز" مباشرة، وهذا من أبرز فوائد العملية، بحيث تكشف الأمراض الجلدية وتزيد الشاة سمنة، لأن ترك الصوف عليها يؤدي بها إلى النحافة والهزال. دراهم معدودة لمخاطر كبيرة أما على صعيد العمال المختصين، الذين وجدناهم في عدد كبير من بلديات الولاية، فقد تحدثوا لنا عن احتضار هذه المهنة، فجميع الشباب يعزف عنها إلا من رحم ربك، وأسبابهم كثيرة، أولها أن مردود الحرفة زهيد، بحيث لا يتجاوز أجر العامل، مهما كان سريعا في عمله، 1500 دينار، في مقابل مخاطر كثيرة، منها معاركته لكباش وشياه تدك بأرجلها وقرونها صدره وبطنه، وفي بعض الأحيان وجهه وحتى أسنانه، ناهيك عن أمراض "الجرب" المتنقلة من الشاة إليه وبعض الحشرات مثل "القمل"، ويضاف إليها اتساخ ثوبه وبدنه طوال أيام وأسابيع. وأكثر من هذا، فإن نشاط هذه الحرفة لا يدوم سوى شهرين فقط، ويتمتع بإنتاجها التجار على اختلاف مستوياتهم، بداية من التاجر الأول الذي يتعاقد مع الموّالين فيشترونه منهم بنحو 6000 دينار للقنطار الواحد، ليبيعوه لتجار آخرين يأتون، في الغالب، من الولايات الشرقية بنحو 8000 دينار إلى 10000 دينار للقنطار، بحسب نوعية الصوف، وهؤلاء، فيما بعد، يسوّقونه للورشات الإنتاجية، أو لتجار آخرين، بأثمان قد تصل حدود 20 ألف دينار للقنطار. وما يخرج من تحت أيديهم يتمتع به الناس ويتفاخرون به، لباسا وفراشا، والموّال، في حد ذاته، قد يكون خاسرا، بالنظر لما ينفقه في سبيل انتزاع الصوف، لأن متوسط ما ينتزع من شاة واحدة كيلوغرام إلى كيلوغرامين من الصوف، في حال ما إذا كان العام خصبا وكانت الشاة في أول عهدها بالجزّ، وينزل وزنه إلى 800 غرام أو أقل في حال ما إذا كان العام جدبا، لكنه في النهاية يربح تحسّن ميزان أغنامه ومداواتها من الأمراض. مكره أخاك لا بطل ويضيف هؤلاء العمال أن الحاجة تدفعهم إلى هذا العمل، لأنهم يسعون إلى تحسين مداخيلهم، فهم في باقي أيام السنة قد يعملون أعمالا حرة غير ثابتة، وينتظرون هذين الشهرين بفارغ من الصبر، ولدى سؤالنا لهم عن وجود المقصات الكهربائية كان جوابهم أن الجميع لا يعمل بها، لأن الموّالين متنقلون في الفيافي والأرياف، ولا وجود للكهرباء بها. م٫.ب شاهد من أهلها بن ساعد معراج خبير في حرفة "الجزّ" العزوف عن المهنة يهدد باختفائها بن ساعد معراج، يطلق عليه زملاؤه اسم "القايد"، لأنه يقودهم في العمل، ولأنه الأكثر خبرة وتجربة، فهو من مواليد 1953 بتاجموت بولاية الأغواط، يعمل، مع مجموعته، بين موّالي مناطق الجلفةوالأغواط. يقول "تعلمت الحرفة من والدي حين كان عمري 13 سنة، وبقيت أزاولها إلى اليوم. وعلى مدار 46 سنة وصلت سرعتي في عملية الجزّ إلى أنني أكمل 40 شاة في اليوم، ولم نكن نتقاضى في السابق أجرة، لأننا كنا نعمل بنظام "التويزة"، فنتبادل ونتعاون كجيران أو عرش واحد، فكل يوم نقضيه عند موّال، وفق "الدالة"، وحتى المقص كان يشبه في القديم "المنجل" ونطلق عليه اسم "المحشّة". ويضيف بن سراج أن لهذه الحرفة مخاطر، من ذلك الأمراض الجلدية وقلة النظافة والتعب، مع مصارعة الكباش والشياه، حتى إن بعضهم فقد أسنانه الأمامية، ويؤكد المتحدث بأنه تعرّض لضربة على مستوى القفص الصدري عدة مرات بأرجل الكباش، حتى إنه يؤلمه اليوم، وإلى جانب ذلك مخاطر الإصابة بجروح من المقص الحاد. ويتأسّف بن سراج لعدم وجود تكوين على مستوى مراكز التكوين المهني ومعاهد البيطرة وغيرها في عملية الجزّ، "لأن جميع الشباب أصبحوا يعزفون عن هذه الحرفة، إلى درجة أنها تحتضر فعلا". مثلما تأسف عن إهمال مديرية التجارة لمراقبة الصوف من حيث غش بعض التجار، الذين يضيفون له التراب، و"كأن العزوف امتد حتى إلى القوانين التي تحمي وتحافظ على هذه المادة". م٫.ب الطفل عطية.. التلميذ عاشق الجزّّ شدّ انتباهنا، ونحن بالمزرعة النموذجية بتعظميت، طفل صغير يعارك شاة ويجزّ صوفها بمهارة الكبار، فاقتربنا منه لنتعرف عليه، ونعرف كيف تعلم المهنة، فأجابنا بأنه من مواليد أفريل 1997، وأنه تلميذ بمتوسطة بلدية تعظميت، وقد أنهى فترة الاختبارات وجاء ليقدّم مساعدة للكبار، من كهول وشيوخ بلديته، لأن والده يعمل بالمزرعة ومنه تعلم رعي الأغنام، كما تعلم عملية الجزّ، وهذا منذ السنة الماضية، لكنه لا يعتبرها سوى هواية لا أكثر، ولا يراها مهنة مستقبل، لما فيها من متاعب وأجر زهيد. ويقول الطفل عطية إن أمنيته أن يكون مهندسا أو بيطريا. لنتركه ونحن نتساءل هل سيكون عطية مثالا لباقي الأطفال والشباب، كي يأخذوا عن آبائهم المهن والحرف فيتعلموها للحفاظ عليها، ولا بأس إن هم طوّروها وتفننوا في تحديثها.