دعوة لوضع إستراتيجية جادة وإعادة النظر في قانون الجمعيات لا يجد الجزائريون أي مبرر لوجود الآلاف من الجمعيات، كونهم لا يكادون يلمسون ثمار عمل هذه الأخيرة، ولا يستفيدون من نتائج الحملات التي تطلقها في الميدان. وقد اعتاد المواطنون على توجيه انتقادات لاذعة لمؤسسات المجتمع المدني، التي ينحصر دورها، وفق رؤيتهم، في المطالبة بالتمويل من الدولة، والحصول على مزايا وعلى ما أمكن من أموال، دون الاعتماد على نفسها في الحصول على مصادر تمويل خاصة، خارج ما تجود به المؤسسات العمومية، ما من شأنه ضمان استقلاليتها وحيادها، على غرار ما تعتمد عليه الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني الأجنبية. في ظل الاتهامات بالفساد والاحتيال التي باتت لصيقة بها، ارتسمت في أذهان المواطنين صورة نمطية، كرست غياب الثقة وفقدان الشرعية الاجتماعية، ومهّدت لحالة انفصال بين الجمعيات وباقي أفراد المجتمع، وهو ما يهدد، حسب أهل الاختصاص، بحدوث قطيعة بين الطرفين. وإن كانت بعض الجمعيات الفتية تسعى إلى إثبات نفسها في الساحة وخدمة بعض الأهداف الإنسانية، إلا أن الصورة التي خلّفتها سنوات من الممارسة غير السوية من قِبل بعض مؤسسات المجتمع المدني، جعلت من عملية استعادة ثقة المواطن في دور هذه الأخيرة كوسيط بين الطبقة الشعبية والسلطة أكثر صعوبة. وبوجود العديد من “الانتهازيين” الذين يفضّلون المتاجرة بمشاكل وانشغالات المواطنين، واعتراف مسؤولين سامين في الدولة بحجم الأزمة، وتأكيدهم على وجود جمعيات لا تزاول نشاطها إلا بصفة مناسباتية أو براغماتية، تبقى إشكالية العمل الجمعوي تدور في حلقة مفرغة ببلادنا. وفي هذا السياق، أوضح الدكتور في علم الاجتماع، نور الدين وجمان، أن الجمعيات تقوم بدور الوساطة بين مؤسسات الدولة والطبقة الاجتماعية، مشيرا إلى أنها تمثل “صوت الشعب” من خلال ما ترفعه من مطالب واحتياجات وآراء معارضة لمشاريع الدولة، حيث حذّر من إمكانية اختلال هذه الوظيفة، الأمر الذي يؤدي إلى انتشار الفساد وبروز حالة رفض واحتجاج على الوضع وتفسخ اجتماعي، مؤكدا أن ما يعاب على جمعيات المجتمع المدني، اليوم، هو تعرضها للاستغلال من قِبل ذوي المال والنفوذ وخضوعها للتوجيه المطلبي، لتكون معبّرة عن “السلطة الحاكمة، وهو ما نتأسف عليه”، بالنسبة للجمعيات التي تصبح مسيّسة وموجهة لخدمة أغراض تخالف احتياجات الطبقة الشعبية البسيطة أو الفئة التي أسست من أجلها الجمعية. وأفاد محدثنا أن الجمعيات في البلاد بحاجة إلى آليات جديدة للعمل والتمويل، لتستطيع التعبير عن تطلعات ورغبات ومشاكل المواطنين أو فئات منهم، مشيرا إلى وجود أشخاص يملكون كفاءة عالية تسمح لهم بإدارة مثل هذه المؤسسات المدنية إلا أنها تبقى مهمشة، قائلا: “توجد جمعيات تستفيد من تمويل جيد جدا ولا نرى نشاطها في أرض الواقع”. وقال أستاذ علم الاجتماع إن فقدان دور الوساطة يجعل الناس لا يثقون في الجمعيات، ولا يعبّرون عن آرائهم واحتياجاتهم لها، كما لا تمنح المسؤولين في الدولة حقيقة ما يجري لدى القواعد الشعبية. ومن ناحية أخرى، أكد محدثنا أن الجمعيات في بلادنا لا تملك روح المبادرة لجمع التبرعات وإنشاء شراكة دائمة مع المؤسسات، أو الحصول على تمويلات مستقلة عمّا تقدمه الدولة، مشيرا إلى أنها تبقى حركات ناشئة، حيث منحت الدولة الترخيص لإقامة الجمعيات، لأول مرة منذ الاستقلال، سنة 1990، وهو ما جعل تجربتها محدودة ولا يمكن أن تقدّم ثمارها في الوقت الحالي. من جانبه، أكد المستشار حول تنظيمات المجتمع المدني والجمعيات بالمركز الوطني للبحث في الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية، إيزروقن عراب، أن القانون الجزائري يمنع استفادة الجمعيات من أموال أجنبية. وبالمقابل تعتبر الأموال التي تستفيد منها الجمعيات في شكل منح من قِبل الشركات والمؤسسات الاقتصادية الكبرى غير كافية لسدّ احتياجات نشاطها، وهو ما يبقي دور الجمعيات محدودا، وأضاف: “الإطار القانوني لا يسمح بتطوير الحركة الجمعوية في بلادنا، إنما يشكل عائقا ينبغي إعادة النظر فيه”. وأوضح إيزروقن عراب أن القانون الأخير، الذي تم طرحه على مستوى المجلس الشعبي الوطني العام الماضي، يعرقل نشاط الجمعيات أكثر مما يمنحها إضافة، كما لا يخدم البلاد، مبرزا أن تخوّفات الدولة من التمويل الخارجي منطقي، إلا أن المنع ليس الطريقة الناجعة لتمكين المجتمع المدني من القيام بدوره في إصلاح القاعدة الاجتماعية للبلاد. وقال إن غلق المجال وعدم السماح بوجود تمويل موضوعي يؤدي إلى اختفاء دور هذه الأخيرة في الميدان، مقابل التواجد الكثيف لها في قوائم وزارة الداخلية، ودعا، في السياق، إلى تسطير إستراتيجية واضحة تجاه الجمعيات التي تعتبر جزءا من المجتمع المدني. التمويل مرتبط بالولاء الجهوي والحزبي والمصلحي واتهم محدثنا مسؤولي البلديات والولايات والوزارات المعنية بعدم منح التمويلات على أسس موضوعية، حيث أكد أنه غالبا ما تدخل في العملية حسابات العمل السياسي والانتماء الجهوي والعائلي، وهو ما يجعل الجمعيات الراغبة في تغيير الوضع إلى أفضل مهمّشة، فيما تستفيد جمعيات أخرى من امتيازات وحوافز دون تقديم خدمات للمجتمع. وقال عراب إن الإشكال يبقى مطروحا منذ سنوات، في ظل توقف نصف الجمعيات المعلن عنها عن النشاط، ووجود جمعيات أخرى غير معروفة ولا تظهر نشاطاتها، وهو ما يحتم، يضيف، “وضع إستراتيجية جادة، على غرار الدول الأجنبية والشقيقة السباقة إلى التجربة والتخلي عن إستراتيجية المصلحة”. شركات بترولية “تختار” الجمعيات من باب “المصلحة” وأشار إلى أن الجمعيات في الخارج تملك حرية كبيرة في التحاور والمساواة بينها، أكثر من الجمعيات في بلادنا، التي تعتبر مقيدة ولا تشتغل في الظروف نفسها، والمناخ الاقتصادي، والعادات الخاصة بالمجتمع. وأوضح أن علاقة المؤسسات الاقتصادية الكبرى في بلادنا بالحركات المجتمع المدني تبقى مناسباتية فقط، وتستغل للدعاية الإشهارية، على غرار الاحتفالات بيوم البيئة والشجرة ويوم الطفل وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها، أو مصلحية على غرار ما تقوم به شركات البترول الكبرى التي تسعى للتأقلم مع الجماعات المحلية، حيث تموّل الجمعيات حسب اتجاهات معينة، دون وجود تقاليد للعمل المستمر بين الطرفين. وأشار إلى تأثير الوضع الاقتصادي للبلاد، حيث تنغلق المؤسسات التجارية على مشاكلها الداخلية، ولا تكوّن نظرة خاصة لخلق علاقات شراكة مع حركات المجتمع المدني. وقال إيزروقن عراب إن الجمعيات التي اكتسبت تجربة وخبرة في تمويل ذاتها تعد على الأصابع، حيث يبقى دورها إيجابيا رغم النقائص وبعض بوادر الفساد عند بعض أفرادها، حيث تمكنوا من الحصول على تمويلات من الاتحاد الأوروبي واليونيسيف. مصدر من وزارة الداخلية يؤكد “الدولة تدعم الجمعيات الفاعلة ميدانيا” قرابة 100 ألف جمعية تستفيد من التمويل أكد مصدر من وزارة الداخلية والجماعات المحلية، ل«الخبر”، أن المنظومة الوطنية تحمل ترسانة من الجمعيات الفاعلة في الميدان، والتي تساهم في الدفاع عن الانشغالات الدائمة لبعض فئات المجتمع، كما تعطي للدولة، يضيف محدثنا، نظرة عن الواقع الاجتماعي للمواطن. وبخصوص تمويل الجمعيات الناشطة، أكد المتحدث أن الدولة تمنح دعمها للجمعيات الفاعلة التي تثبت جدارتها وأحقيتها في التمويل من خلال النشاط الدائم في الميدان، كما لا تمانع بدعم الجمعيات الناشئة التي تسعى للتموقع في الساحة ودعم رصيد حركة المجتمع المدني، إذا تأكدت الوزارة هذه الأخيرة قادرة على الاستمرار والعمل لفائدة المجتمع ككل. وبخصوص الأرقام المسجلة لدى مصالحها، أكد المصدر نفسه أن عدد الجمعيات الفاعلة في الميدان ارتفع إلى 93654 جمعية معتمدة خلال 2012، وناشطة على المستويين الوطني والمحلي، مشيرا إلى أن الإحصائيات السنوية أكدت وجود 92627 جمعية محلية و1027 جمعية وطنية، تستفيد من تمويل الدولة. وقال المصدر ذاته إن بعض الجمعيات لا تتمكن من الاستمرار في النشاط، ولهذا تقوم الجهات المختصة، حسبه، ببحوث وتحقيقات ميدانية لتحديد أعداد الجمعيات المعتمدة والناشطة سنويا، حيث تضم منظمات حقوقية وثورية واتحادات وجمعيات وطنية وأجنبية، منها المهنية والخيرية والدينية والمختصة في الصحة والتجارة والرياضة والبيئة وجمعيات الأحياء التي بلغ عددها 20137 جمعية.