قتيلان وعشرات الجرحى وحرق مقرات تابعة للإخوان وكأن مصر في حالة حرب، الشوارع خالية من المارة والسيارات تقريبا، محطات الوقود خالية، المحلات التجارية الرئيسية مغلقة والبنوك كذلك، الطائرات الحربية تحوم في سماء القاهرة، الشرطة تقريبا مختفية، الدبابات والمدرعات العسكرية تسير في الشوارع لتأمين المنشآت الحيوية، لتعود بنا بالذاكرة إلى يوم ال29 جانفي 2011، وهو اليوم الثاني لجمعة الغضب 28 جانفي، حيث انهارت الشرطة وأصبح الشارع ملكا للمواطنين. يحدث هذا في الذكرى الأولى لانتخاب مرسي. المواطنون البسطاء احتلت نظرات القلق عيونهم، والملايين إحتشدوا في ميادين الحرية، مناصرو الرئيس تجمعوا في مكان واحد وهو ميدان “رابعة العدوية” شرق القاهرة، حيث تجمع آلاف منهم منذ يوم الجمعة الماضية، جاءوا من المحافظات لدعم شرعية الصندوق، يسمعون الخطب السياسية والدينية، ويقرأون القرآن ويدعون الله، ولكن هذا لم يمنع ظهور بعضهم في طابور شبه عسكري، فيه شباب يرتدون الدروع الواقية للرصاص والخوذات، وأقنعة الغاز المسيل للدموع. وفي المساء تغير المشهد إلى أجواء احتفالية بعد نزول الملايين للشوارع، فقد تحوّلت شوارع القاهرة فجأة إلى هذا المشهد الذي يعرفه المصريون جيدا حينما فازت مصر بكأس إفريقيا لكرة القدم، أو مشهد أقرب ليوم 11 فيفري 2011 “يوم تنحي مبارك”. وفي المقابل، إحتشد الملايين من المعارضة في ميدان التحرير وقصر الإتحادية، وميدان القائد إبراهيم بالإسكندرية والمحلة “المدينة العمالية الأكبر في مصر”، والمنوفية والسويس وبورسعيد والشرقية وطنطا. واللافت للنظر أن المعارضة هذه المرة ملأت ميدان التحرير منذ العاشرة صباحا، وهو سلوك جديد، حيث إن الموعد الرسمي لانطلاق مظاهرات شباب الثورة كان في الرابعة عصرا، ومن المعروف أن أنصار جماعة الإخوان المسلمين يفضلون المظاهرات الصباحية، ويتجهون إلى الميادين مباشرة بعد تأدية صلاة الفجر، بينما المعارضة تفضل التظاهر مساء. "مستعدون للشهادة في رابعة العدوية” في ميدان رابعة العدوية، يتحدث الموالون للرئيس المصري محمد مرسي عن رفع صور مبارك في ميدان التحرير، ويحذرون المسيحيين في مصر من التظاهر ضد الرئيس، ويؤكدون أنهم جاهزون للشهادة من أجل الإسلام وشرعية الرئيس مرسي، وفي ميدان التحرير يتحدثون عن الدعوة لإنتخابات رئاسية مبكرة، وإنهاء دولة المرشد، والمتاجرة بالسياسة باسم الدين. من جانبه، قال الرئيس المصري في تصريحات لصحيفة “الجارديان” إنه يرفض الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، مؤكدا أن هذا سيخلق حالة من الفوضى لا نهاية لها، لأنه إذا وافق على طرح الانتخابات الرئاسية المبكرة، لن يكمل الرئيس الذي يأتي بعده عهدته، وأضاف “سندخل في دوامة بلا نهاية”، وأبدى مرسي في حواره للصحيفة ندمه على الإعلان الدستوري الذي أصدره، والذي وصفته قوى المعارضة بأنه سبب الانقسام الذي تعاني منه مصر. وعقدت الرئاسة المصرية مؤتمرا صحفيا، عصر أمس، أبدت فيه أسفها الشديد على حالة الانقسام الذي تعيشه مصر الآن، وأدانت التحرش بإحدى الفتيات في ميدان التحرير. ولم يخل ميدان التحرير من الشعارات الكوميدية التي اقترنت بالثورة المصرية مثل “مرسي اللعبة انتهت”، ووقوف أحد المتظاهرين بمجموعة من الخراف الصغيرة يعرضها للبيع، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين وأن نظام الإخوان قد ولى، وشعارات أخرى مثل “ياللي عملت نفسك إله.. لا إله إلا الله” و"إرحل” و"الثورة تحكم ولا تموت”، و"يسقط يسقط حكم المرشد”، “الإخوان كذابين.. سرقوا الثورة باسم الدين”، وهتافات أخرى بإسم الشهداء ومنهم الشهيد الحسيني أبو ضيف “ياحسيني ياولد .. دمك بيحرر بلد”، وعلقوا صورة ضخمة ل"أن باترسون” السفيرة الأمريكية في القاهرة كتب عليها “ياحيزبونا إرحلي”، وهي جملة شعبية تعني “ياشيطانة إرحلي”، وعلقت لافتة كبيرة عليها صورة للرئيس الأمريكي أوباما كتب عليها “أوباما راعي الإرهاب”. وإنطلقت 6 مسيرات كبيرة صوب قصر الإتحادية في تمام الساعة الرابعة ظهرا من أماكن مختلفة، كان أكبرها المسيرة التي انتقلت بالقوى الثورية اليسارية التي حملت ثلاث صور ضخمة، لثلاثة شهداء أحدهم قتل على يد الإخوان، والآخر على يد الداخلية، والثالث على يد الجيش، وهي مسيرة ترفض دولة مرشد الإخوان ودولة الشرطة ودولة الجيش، حيث تختلف هذه المسيرة في مطالبها عن بقية قوى المعارضة، وسعت قوى المعارضة لتوحيد الهتافات نحو إسقاط دولة الإخوان المسلمين، مع طرح العديد من المبادرات حول تكوين مجلس إنتقالي من شخصيات ثورية وعسكرية وإقتصادية، وآخرون يتحدثون عن مرحلة إنتقالية يديرها رئيس المحكمة الدستورية العليا. احتفالات “بسقوط” مرسي أجواء ميدان التحرير لم تخل أيضا من المظاهر الاحتفالية، وكأن الرئيس مرسي سقط وهتفوا “الشعب خلاص أسقط النظام”، وإستخدم بعض المتظاهرين الألعاب النارية، كما بثت إذاعة الثورة في الميدان أغاني حماسية لعبد الحليم حافظ وشادية، ودارت المناقشات بين المتظاهرين حول ورطة جماعة الإخوان المسلمين في حشد معظم أنصارها في ميدان رابعة العدوية، وإنحصارهم في مكان واحد فقط، وتخلي السلفيين عنهم وعدم نزولهم لمناصرتهم في المظاهرات، واعتبروا أن هذا تحول كبير في مسار المظاهرات. في المقابل، دارت الحوارات في ميدان رابعة العدوية حول دعم الفلول لتظاهرات أمس، وإستخدام الشرطة البلطجية لضرب الإخوان المسلمين. واللافت أن المظاهرات المعارضة للرئيس المصري شملت تمثيلا تقريبا من كل قطاعات ومؤسسات الدولة والمجتمع، فهناك مسيرات شارك فيها العسكريون المتقاعدون، ومسيرات أخرى شارك فيها ضباط الشرطة، وثالثة شارك فيها القضاة، ومسيرة واحدة جمعت بين الصحفيين والمحامين، إنطلقت من مبنى نقابة الصحفيين وحتى ميدان التحرير، ثم توجهت إلى قصر الاتحادية، ومسيرة شارك فيها شيوخ من الأزهر الشريف، ومسيرات نسائية وأخرى عمالية. وذكرت وزارة الصحة المصرية، أمس، أنها سجلت 174 جريحا في سبع محافظات، كما تم حرق 3 مقرات لجماعة الإخوان المسلمين في المحافظات ومحاولة لحرق المقر الرئيسي للإخوان في المقطم وسط القاهرة، وتحدثت مصادر أخرى عن قتيلين. وفي خضم هذه الأحداث الساخنة، نشر الجيش المصري وحداته بكثافة على مستوى جميع المنشآت والمؤسسات الحيوية، مؤكدا على أنه لن يسمح بنشوب حرب أهلية، وأنه كان يأمل في إنهاء هذا الإحتقان الطائفي والفكري الذي تشهده البلاد، خلال المهلة التي قدمها للرئيس وقوى المعارضة، ومدتها أسبوعا، وإنتهت المهلة دون مبادرات أو ظهور بوادر أو حلول للخروج من الأزمة، في ظل تمسك الطرفين بموقفهما.