العالم كله يتابع ما يجري في سوريا منذ عامين ونصف، ويتساءل كيف يتحوّل نظام وُجد لحماية شعبه ورعاية مصالحه وحفظ حقوقه وحرياته إلى آلة حرب يقتل شعبه بكل وسائل القتل، ويدمّر بلده بكل وسائل التدمير، أفلا يجب على الشعب عندئذ أن يثور دفاعا عن دينه وحياته وأعراضه وممتلكاته؟ لو أن سوريا ثارت كلها ثورة رجل واحد، غيرة على ما فعله النظام، ولا يزال، بدينها وأعراضها وثروتها ودورها ومدارسها ومساجدها ومعاهدها ومستشفياتها ومزارعها ومصانعها وسائر ممتلكاتها من تحطيم وتدمير ونهب، ومن قتل وهتك للأعراض لكانت على حق يقرّها عليه كل من له عقل فوق هذه الأرض. إن نظام الأسد هو من نوع أسباب الثورة عليه، وكل سبب منها يقضي بثورة مجنونة، فكيف وقد اجتمعت كلها. وأمام ما يجري في سوريا تنادى جمع من علماء الأمة لدراسة ما يوجب الشرع فعله، فكان الاجتماع الذي احتضنته القاهرة، والذي أسفر عن صدور بيان العلماء، وفيه الدعوة للجهاد في سوريا لإسقاط النظام الأسدي وتحرير الشعب منه ومن مظالمه. والعلماء في كل الأمم الحية هم خيارها وقادتها وحراس دينها ودنياها وسبب وحدتها وقوتها، وعامل مجدها وعزها، تعرف لهم الأمة قيمتهم وفضلهم، وتقدر لهم دورهم؛ فتسمع لهم وتطيع، ويعرفون هم للأمة حقوقها؛ فيقومون بواجب التعليم والتنبيه والتوجيه، ثم بواجب القيادة والتدبير، والتاريخ يشهد أنه ما قويت أمة وعزّت، ولا تقدّمت وتحضّرت إلاّ لمّا أنزلت علماءها مكانتهم اللائقة بهم، وقاموا هم بدورهم المنتظر منهم. والأمة تحتاج إلى علمائها في أيام العافية وأيام الشدة على السواء، فهم الذين يدلّون الأمة على منهج السعادة في الحياة، وهم الذين يهدونها إلى حلول ما قد يحلّ بها من شدائد ويعترضها من مشكلات وينزل بها من محن. ودور علماء الإسلام أكبر وأضخم، لأنهم ورثة الرسول صلى اللّه عليه وسلم في هداية الأمة إلى طريق الهداية ومساعدتها على الاستقامة والاعتدال في جميع شؤونها. وقد استبشر كثير من نخب الأمة ومثقفيها خيرا لما تقدّم عدد معتبر من العلماء، يتقدّمهم الشيخ يوسف القرضاوي، صفوف الأمة يدافعون عن حقوقها ويبصّرونها بالواجب، ويدلّونها على الطريق، فصدرت منهم الفتوى بوجوب الجهاد في سوريا لإسقاط نظام الأسد. وكان الأحرى بجميع المثقفين والكتاب وسائر قادة الرأي في الأمة أن يشدّوا على هذه الفتوى بالنواجذ، ويأخذوا ما بيّنته من مواقف شرعية بقوة وعزيمة؛ تبرئة للذمة وأداء لواجب مجاهدة الظلم والضلالة، راجين من اللّه تعالى العون والتوفيق. لكن يبدو أننا نعيش في زمن اطمأنت فيه معظم النفوس إلى السكون ولاذت فيه بالراحة، وركنت فيه إلى خصال من الضعف والخور، حتى أصبح فطامهم عليها عسيرا، وألفت فيه نفوسهم أوضاع الاستبداد والفساد حتى أضحى نقدها والحديث عن وجوب تغييرها إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وأصبح الداعي إلى الاستسلام إلى الأوضاع القائمة يسمى حكيما وعاقلا وخيرا، ويرمى الداعي إلى تغييرها بالخيانة والعمالة والتآمر على الأمة. ولو كان لهؤلاء بعض العلم بشرع اللّه تعالى، وبعض التأدب بآدابه لعلموا معنى قوله تعالى: “وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا” [النساء:75]. وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه: “قال: دعانا النبي صلى اللّه عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان»متفق عليه. وقوله عليه الصلاة والسلام: “اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب اللّه”. قال الخطابي كما جاء في فتح الباري في شرح الحديث الأول: معنى (بواحا) يريد ظاهرا باديا، من قولهم باح بالشيء يبوح بوحا وبواحا: إذا أذاعه وأظهره. (عندكم من اللّه فيه برهان) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أي نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل. وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين من مجموع الفتاوى: وأيما طائفة انتمت إلى الإسلام، وامتنعت عن بعض شرائعه الظاهرة المتواترة؛ فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام، وإن تكلم بالشهادتين. وقال القاضي عياض كما جاء في شرح صحيح مسلم للنووي في كتاب الإمارة: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة– تركية – خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام لخلع الكافر. وقال ابن حجر كما جاء في فتح الباري بشرح صحيح البخاري: إنه– أي الإمام– ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب ومن داهن فعليه الإثم. هذه فتاوى بعض كبار علماء الأمة الذين تلقت الأجيال المتلاحقة قرنا بعد قرن فتاواهم وعلومهم بالرضا والقبول. ويتضح مما سبق من نصوص وفتاوى كبار العلماء أن مجرد إظهار مظاهر الكفر، وترك العمل بالشريعة موجب لعزل الحاكم وتغييره. وما ظهر من نظام آل الأسد في سوريا من مظاهر الكفر أكثر من أن يعد أو يحصى، كما ظهر منهم ما يقدح في دينهم من كفر وفسوق وظلم، كما أنه لا خلاف بين العارفين بالطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد أنها غير مسلمة، فهم لا يقيمون أركان الإسلام، فلا يشهدون شهادة الإيمان، ولا يصلون ولا يزكون ولا يصومون ولا يحجون، وقد أضاف جنوده ضلالة أخرى هي الأسوأ وهي تأليه بشار الأسد، ولم ينقل أحد تبرؤه من ذلك ولا إنكاره. لكل ذلك نقول إنه لا شرعية لحكمهم، وأن إسقاطهم واجب مقدس، وأن التعاون على تحقيق ذلك واجب يؤدى بكل الوسائل والطرق اللازمة والمناسبة. لقد أفتى العلماء بهذا الواجب بناء على مثل هذه الأدلة، وهي من أقوى الأدلة وأوضحها، وفتواهم ملزمة لكل المسلمين على قاعدتي الأقدر فالأقدر والأقرب فالأقرب، لأنها تستند إلى الدليل من الكتاب والسنة، وهي صادرة عن علماء بالشريعة؛ وهم من أولياء أمر الأمة الذين أمر اللّه تعالى بطاعتهم. وبدل أن يتلقى المسلمون جميعا هذه الفتوى بالرضا والقبول، وبالطاعة والالتزام انبرت للأسف بعض الأقلام لمحاولة الطعن في الفتوى بلا دليل، وتشويه العلامة يوسف القرضاوي باتهامه بالعمالة والخيانة والتآمر على الأمة، فمن يجهل جهد هذا العلامة في الدفاع عن الدين وشرح حقائقه للأجيال المختلفة؟ ومن يجهل جهاده في نصرة فلسطين وسائر قضايا الأمة المعاصرة ؟ إنه لا يجهل ذلك إلا جاهل أو حاسد أو حاقد أو ظالم، أو عميل لأنظمة الاستبداد؛ حريص على بقائها جاثمة على صدر الأمة، تحارب دينها وتنهب ثروتها، وتفسد أخلاق شبابها، وتحمي مصالح أعداء الأمة ومشاريعهم في أوطاننا. إن حملة التشويه القائمة اليوم ضد الشيخ يوسف القرضاوي، وغيره من علماء الأمة، تهدف إلى محاولة إضعاف سلطان العلماء على الأمة وإزالة هيبتهم من النفوس، خدمة لمشروع العولمة والتغريب في أوطاننا. ومهما كانت محاولاتهم، فإننا نقول إن الفتوى صحيحة وإن ردود الفعل الجاهلة أو الحاسدة لا تنال من عزيمة العلماء، لأنها مستمدة من العلم والإيمان، لاعتقادهم أنهم هم من يجب عليهم الصدع بكلمة الحق فيما يجري في سوريا، وفيما عليه الوضع في العالم العربي والإسلامي، وأن كل عالم مسلم يسكت عن كلمة الحق ولا يرضى أن يموت في سبيله جبان، والجبن والإيمان لا يلتقيان، وأن أمانة الإسلام في نفوسهم أمانة عظيمة، وأنهم في مقدمة المسؤولين عنها في الدنيا والآخرة.