مازالت الذاكرة الجماعية لسكان سطيف، تحتفظ بهمجية مستعمر مرّ من منطقة عموشة، وتكشف بعض الشهادات التي نقلها ل"الخبر" أساتذة باحثون متخصصون، عن جوانب من حجم المآسي التي عاشها الجزائريون الذين خرجوا في مظاهرات سلمية يوم 08 ماي 1945م، حيث سقط برصاص المعمرين الآلاف من الأبرياء وعذب وهُجر الآلاف منهم أيضا. روى الطيب شطيبى، أحد من عايش المجازر، للأستاذ لوصيف سفيان، بأنه كان شابا حينها وكان مقررا يوم 08 ماي 1945 أن يذهب لإجراء الفحص الطبي في إطار التجنيد، وفي طريق منطقة جبل العسل، التقطت مسامعه صوت المدعو ”ضيافات العدواني” العائد من سطيف ينادي إلى الجهاد في سبيل الله، ليعود الطيب ومن رافقه إلى عموشة، وفيها تم تخريب مصالح المعمرين من مزارع واصطبلات ومنزل رئيس البلدية، وانتشر بعدها خبر الانتفاضة في القرى والمداشر، لاسيما بعد عودة الناشطين السياسيين الذين كانوا في مسيرة سطيف. ويتذكر عمي الطيب بأن رد الفعل كان سريعا وعنيفا بعد مجيء القوات العسكرية، وبدأت حملة الاعتقالات والقمع والتعذيب، وكان أول من سجن من سكان عموشة هو البشير قيرواني، ثم ازداد عدد الأسرى تبعا لعمليات المداهمة من قبل الجيش والمعمرين، وكان الطيب شطيبى واحدا منهم، تم وضعنا يقول الطيب في مستودع كبير يملكه أحد المعمّرين، وكان الكل ينتظر فقط ساعة الإعدام، وما زاد من الخوف هو دعوة أحد المعتقلين بضرورة ترديد الشهادة في هذا المستودع الذي قضى فيه الطيب والرفقاء ليلة 8 ماي. جاء الدرك إلى عموشة في 9 ماي قادما من عين عباسة ومعهم المعمّرين، قاموا بإخراج أبي عبد الله شطيبي من المعتقل ومعه خنتوت عبد الله، غريب السعيد، خلفة الهاشمي، بن علاق الربيع، وتيشي العربي الذي كان أول شهيد، كما هو مدوّن في الجدارية المخلدة لذكراه، ويؤكد هنا المتحدث بأنه كان الأشجع، حيث كان يردّ على أي إهانة. أما الجماعة التي أخرجت من المعتقل أخذوها إلى المالحة وهي منطقة في دوار بوعمران وقتلوا هناك جميعا. ويضيف الطيب بأن والده اعتقل وتم تعذيبه ثم أخذوه رفقة جماعة خنتوت عبد الله، لأنه شارك في تخريب بيت رئيس البلدية، وحين عاد المعمّرين إلى عموشة حيث كانوا يحتفلون بنهاية الحرب العالمية الثانية حمّلوه المسؤولية لأنه المكلف بالحراسة، وقتل في المالحة رميا بالرصاص ولم يسمح للعائلة بدفنه إلا بعد ثلاثة أيام، وقال متأثرا ”حملته على البغل لأدفنه في قرية سيدي موسى لم يسمح لي بدفنه هناك، ثم أكملت به الطريق حتى وصلت إلى أولاد عباشة في تيزي نبشار وهناك دفنته”. كما يتذكر بأنه لقي ومعه عدد من الجزائريين أشد أنواع التعذيب، كالضرب واستخدام أسلاك الكهرباء لمدة أربعة أيام متواصلة، وبعدها تم نقلهم إلى سطيف لمحتشد محاط بأسلاك وأشواك في حي كعبوب، ومن محتشد سطيف إلى المحكمة العسكرية بقسنطينة، حيث تمت محاكمة عمي الطيب ومعه أزيد من 120 شخص. ثم حُول إلى سجن سركاجي في الجزائر العاصمة وفيه قضى مدة عام ونصف، ومنه إلى سجن البرواڤية أين قضى مدة مماثلة إلى أن استفاد من العفو. أرملة تروي قصة تعذيب الزوج وقلع عينه وحشية فرنسا تتجسد كذلك في قصة عذاب روتها زوجة المرحوم ”كبور الخير” أحد شهود مجازر 08 ماي بعموشة، حيث تقول للدكتور بشير فايد بعد إلحاح طويل من ابنها، أن زوجها اعتقل مباشرة عقب الأحداث، حيث نقل في البداية إلى سجن سطيف وبعد أيام حوّل إلى سجن ”لومباز” تازولت حاليا بباتنة، حيث حكمت عليه المحكمة العسكرية بقسنطينة بتاريخ 25 فيفري 1946م، بخمس سنوات سجنا نافذا مع الأشغال الشاقة، بتهمة تكوين عصابة مسلحة اقترفت النهب والتخريب للممتلكات المنقولة للحاكم. ونص التهمة هذا بطبيعة الحال ملفق، حيث أن التهمة الحقيقية التي لا يصرح بها هي تكوين جماعة ثورية مسلحة. وتروي المتحدثة أن زوجها أخبرها بأن الحياة في السجن كانت جحيما حقيقيا، التعذيب والإهانة لا يمكن وصفهما، وأنها تتحفظ عن الحديث عنهما لبشاعتهما ولاإنسانيتهما ولاعتبارات أخلاقية. أما الوجبات التي كانت تقدم لهم، فقد ذكر لها أنها قذرة ولا تصلح للآدميين وخاصة أيام الجمعة التي تعلم إدارة السجن قداستها عند المسلمين، فتتعمد إذلالهم بتلك الوجبات التي لا تتعدى في أحسن الأحوال قطعة خبز جاف وحساء إن جاز التعبير، كان الخير كبور يتركهما لأخيه الذي اعتقل معه لمرضه الشديد، الذي جعل جسده نحيلا جدا. وبسبب التعذيب والظروف السيئة داخل السجن، أصيب كبور الخير على مستوى عينه اليمنى، وبدلا من المبادرة بعلاجه تعاملوا معه بمنتهى القسوة والوحشية، حيث قاموا باقتلاع عينه المريضة، دون تخذيره، أو توفير أدنى شروط إجراء عملية جراحية، ولنتصور بشاعة ووحشية الموقف قبل وبعد عملية الاقتلاع جسديا ونفسيا. وبعد خمس سنوات من العذاب والقهر والحرمان والإذلال، قضاها بسجن ”لومباز” أطلق سراحه. ونالت عائلته بعموشة هي الأخرى، نصيبها من المداهمات والاستفسارات و الإهانات والحرق والإتلاف لكل ممتلكاتها المسكن والألبسة والحيوانات.. وغيرها، مع أسلوب الترهيب الذي لم تتوقف سلطات الاحتلال عن معاملتها به على الإطلاق. ورغم كل ذلك تقول السيدة خديجة فإن زوجها ظل يدعم الثورة التحريرية بما يستطيع، وهو يعلم أن أعين الإدارة الاستعمارية كانت تراقبه عن قرب وتقتفي آثاره حيثما رحل أو نزل، وهو الذي كان معطوب بنسبة مائة بالمائة حسب الشهادة الطبية التي يحوز عليها. ولا شك أن ما تحفظت عن البوح به، جرائم قد تبقى في طي النسيان، ولكن ما جاء في هذه الشهادة على قلته، كافيا في اعتقادنا، لإسكات جميع الأصوات التي بحت من أجل تبييض الوجه القبيح لفرنسا في الجزائر وفي غيرها من البلدان، دون حياء أو خجل أو احترام للضحايا وعائلاتهم، الذين نالوا حظهم كاملا من الحضارة والقيم الفرنسية العظيمة.