يصف الجميع مهنة الصحافة بأنها مهنة المتاعب، مثلما يصفها البعض بأنها البحر العميق وكل من يدخله يتحوّل إلى سمكة لا تستطيع العيش خارجه، بل إن مغادرته تعني الموت ومغادرة الحياة بغضّ النظر عما لها من امتيازات مادية أو معنوية، وما فيها من تبعات أو تحمّل مسؤولية ما يكتبه الصحفي. بين من يحترف المهنة ويتخذها عمله الدائم، وبين من يمارسها كهواية ويصبح متعاونا أو مراسلا صحفيا، هنا يختلف الأمر، فالأول يأخذ من الصحافة جميع مزاياها ومتاعبها وحتى القوانين والتنظيمات التي تصدرها تشريعات الدولة لا تخرج عنه، أما الثاني فسيأخذ متاعبها أكثر من مزاياها، وتهمله التشريعات والقوانين حين يتعلق الأمر بمزايا تحفظ له بعض الحقوق ولو بعد الإحالة على التقاعد، على أساس أنه “خارج السرب”، رغم أن المجتمع بمن فيه المشرّعون وأصحاب القرار يرونه واحدا من السرب؛ وفي ظل هذه المعادلة الصعبة تتعقد مهمة المراسل الصحفي وتزداد صعوبة، وهو الذي يكتب عن معاناة الناس ويرفع انشغالاتهم بجرأة وشجاعة، ليجد نفسه عاجزا عن رفع مطالبه وانشغالاته بالجرأة والشجاعة ذاتها، لأنه لا يجد نصوصا قانونية يستند إليها ويتخذها نقطة انطلاق لإثرائها. الهاتف النقال.. أنيس دائم للمراسل الصحفي ومن هذا المنطلق تصبح مهمة المتعاون أو المراسل الصحفي من أشد المهام تعقيدا، من نواحي وجوانب متعددة، بداية من ساعات يومه وبرنامجه الذي يتعود عليه، فأغلب الزملاء الذين تحدثنا معهم من وسائل إعلامية متنوعة مكتوبة ومسموعة وإلكترونية يبدأ العمل عندهم مع الساعات الأولى من كل صباح، يبرمجون أنفسهم على احتمالات كثيرة، والغالبية فيهم يتنقلون ناحية عاصمة الولاية كمصدر مهم للخبر عندهم، بحيث يكون هذا التنقل شبه يومي، والغالبية من هؤلاء لا يملك وسائل النقل، فهم ينتظرون عند مواقف الحافلات ومحطات النقل، وأحيانا مع معارفهم أو زملائهم، ورفيقهم الدائم الهاتف النقال الذي يصرفون عليه في المتوسط معدل 5000 دينار شهريا، لأنه الرابط الأساسي بمختلف الإدارات والمواطنين والزملاء. ومن النادر جدا أن يملك المتعاون الصحفي رقما هاتفيا واحدا فهو- على الأقل - يملك رقمين اثنين أو ثلاثة من الشبكات الثلاث، فضلا عن الهاتف الثابت والفاكس، ومقصده بين الحين والآخر مقاهي الأنترنت، إما لكتابة موضوع مستجد أو تفقّد بريده الإلكتروني وما ورد إليه من مستجدات، وفوق كل هذا يجب أن يتنقل داخل المدينة في بعض أحيائها أو نقاطها العميقة للاستكشاف، ولا تغفل عينه عن منظر يستحق الاهتمام، ولا تغفل أذنه عن سماع ما يثير، سواء كان داخل مقهى أو في الشارع، ومعه آلة التصوير وحتى آلة التسجيل التي ربما يختصرها مؤخرا هاتفه النقال إن كان متطورا، ومع هذا أيضا دفتره أو مفكرته التي لا تكاد تفارقه. ويجب أن يكون ذا جرأة تصل حدود الحماقة أو التهور في اقتحام تجمعات واحتجاجات أو حوادث مرورية كبيرة أو حرائق مهولة أو غيرها لأخذ تصريحات أو صور فوتوغرافية، يفتكها إن لم نقل يسترقها في حضرة عبارة “ممنوع التصوير”، التي يسمعها من أعوان الأمن ومن يضاهيهم. ويتعرض في سبيل كل هذا إلى مضايقات وصعوبات في أخذ المعلومة الرسمية، لأن كل الأطراف الرسمية لحظة الحدث يسمع منها عبارة واحدة ك«ممنوع الإدلاء بالتصريح” أو عبارة “فيما بعد”، وهو ما يجعله يعتمد على ذكائه وخبرته في اعتماد الاستنتاج والقياس وقراءة ما وراء العبارات ليوافي جريدته بالخبر الحقيقي، أو على الأقل المقارب للحقيقة، لأنه يدرك قيمة السبق الصحفي وفائدته لجريدته. وهو في معركة أخذ الصورة والتصريح ووزن الأقوال واستنتاج الحقيقة، عليه أن يكون سريعا في الاتصال بالجريدة والكتابة والإرسال، خاصة إذا كان الحدث مساء واقترب وقت طبع الموضوعات. وفي ظل هذه الظروف يكثر الضغط على المراسل الصحفي، ما قد يسبب له الوقوع في أخطاء يكون عرضة بعدها لمتابعات قضائية، مثلما يكون عرضة لمعاتبة جريدته لأنها تبحث عن التفوق الإعلامي. وأحيانا تتعدد الأحداث داخل ولايته أو في حدود إقليمه، ويجد نفسه محاصرا من جهات عديدة، فلا يجد من أين يبدأ، وكل الأحداث هامة، وهو الأمر الذي يضطره إلى استعمال الهاتف والبريد الإلكتروني والاستعانة بمصادر خبر في جهات معينة، بحيث يعتمد الطريقة البوليسية من أجل التأكد فيستمع إلى عدة أطراف حول موضوع واحد، ليستنتج الرواية الحقيقية في حال عجزه عن التنقل إليها، ويتحمّل كل التبعات في حال الخطأ. وإذا كان هذا هو برنامج المتعاون الصحفي الذي لا عمل له، وهو برنامج يبدأ من السادسة أو السابعة صباحا، وينتهي عند الخامسة أو السادسة مساء، فإن بعض المراسلين لديهم مهن يمارسونها، بعضهم في التعليم، والبعض الآخر في الإدارة، ولنا أن نتصور كيف يغطون موضوعات كبرى باحترافية ومصداقية، فكم ينفق هؤلاء سواء كانوا عمالا أم بطالين من ساعة في اليوم، وكم يجلسون مع عائلاتهم وأبنائهم في اليوم الواحد؟ ولعل معظم الزملاء يتركون أبناءهم في الصباح نياما ولا يلتقون معهم إلا ساعة زمن في المساء. وحتى في المناسبات والمواسم والأعياد يبقى العمل الصحفي له ميزة التواصل الدائم ولا يعرف توقفا، كل هذا في مقابل مادي يحسب له بالقطعة، وقد لا يغطي مصاريف التنقلات الدائمة، فما بالك بمصاريف الهاتف والأنترنت وباقي التجهيزات والوسائل وغيرها التي تختلف كل جريدة عن الأخرى في تقييمها وتعويضها، بما فيها تعويضات التأمين، لأن بعض الوسائل الإعلامية تفطّنت إلى ضرورة تأمين مراسليها العاطلين عن العمل، فيما بقيت بعض الوسائل على طريقتها القديمة، ويضاف إلى كل هذا تهميش قوانين الإعلام لحقوق وامتيازات يراها الكثير من الزملاء ضرورية للمتعاون، كاحتساب ما أداه من خدمة وإضافتها إلى مستحقاته عند التقاعد بالنسبة للمتعاونين الأجراء، ومنح تعويضات بالنسبة للبطالين مع امتيازات السكن، والأولوية في العمل، وحتى في احتساب سنوات الخبرة، لأن المتعاون الصحفي يبذل خدمات إضافية، يضحي فيها بوقته وبأسرته من أجل بناء الدولة كشريك أساسي في التنمية ونشر روح المواطنة وترقية الديمقراطية. ومع ذلك يبقى المتعاون متمسكا بعمله لأنه يشعر بأهمية دوره داخل إقليمه أو في ولايته ووطنه ينتظر لعل حكومة جريئة أو مشرّعا شجاعا يثمّن حقوقه وينظّر لها قانونيا. ضريبة العمل بنزاهة.. دسائس ومؤامرات ومحاكمات عندما تتحدث إلى أي مراسل صحفي عن ذكريات سيئة أو مؤامرات ودسائس دبّرت له، تسمع من القصص والمكائد البوليسية ما يندى له الجبين، فرغم ما يضحي به المتعاون الصحفي من وقت ومال وأسرة، فهو أيضا معرّض إلى الهزّات والمؤامرات والمحاكمات، لأن قلمه الذي أشهره سيفا يحارب الفساد أو الظلم بقدر ما يكسبه محبة طرف فإنه يجني عليه انتقام طرف آخر، وكثيرة هي الوقائع التي عرّضت مراسلين صحفيين لمؤامرات أنهت مسارهم المهني مع جرائدهم أو عرّضتهم للضرب والتهديد والمحاكمات والغرامات والسجن وغيرها من أشكال المتاعب. ولعل في قصة أحد الزملاء الذي دسّ له أحد المسؤولين شخصا من معارفه زاره في بيته، وطلب منه أن يرسل له رقم حسابه الجاري إلى رقم أحد الأصدقاء من أجل إرسال مبلغ مالي له كي يحوّله إلى جريدته لنشر تهنئة، فإذا بالمتعاون الصحفي تفاجئه جريدته بعد أيام بأنها قد استغنت عن خدماته على أساس أن مسؤولا جاء إلى الجريدة وكشف لهم عن “رسالة نصية قصيرة وردت إليه تحمل رقم الحساب البريدي الجاري لمراسلكم يساومني فيها بصبّ مبلغ مالي داخل حسابه”، وعبثا حاول المراسل الدفاع عن نفسه، لكنه تذكر بعد مدة المؤامرة التي نسجت له وقد فاته الأوان. وكثيرة هي القصص من هذا النوع، الذي يُكاد فيها للمتعاون عند جريدته أو الوسيلة الإعلامية التي ينتسب إليها. وأما المحاكمات والتهديدات فهي كثيرة، بعضهم تم حبسه، وبعضهم تم تغريمه بمبالغ مالية يطول التفصيل فيها، ولا نتحدث عمّا يسمع من شتائم أو تهديدات لفظية عنيفة جراء كتابته لموضوع، خاصة إذا تعلق الأمر بقرية أو دشرة رأوا فيه مساسا بالشرف أو سمعة ذلك العرش أو تلك القرية، حيث يضطر المتعاون إلى عدم زيارة تلك القرية أياما حتى ينسى الموضوع. ورغم ما للطابع الصحفي من مظاهر توهم المواطن البسيط بأن المتعاون الصحفي له علاقات واسعة مع مختلف المسؤولين، إلا أنه في الحقيقة لا يحل أبسط مشاكله بكل تلك العلاقات، فأغلب الزملاء مازالوا يعانون أزمة السكن والبطالة، وبعضهم مات ولم يجد مصاريف العلاج وترك من خلفه ذرية ضعافا وديونا ثقيلة، ولا نقصد هنا بعض أشباه المتعاونين الصحفيين الذين باعوا ضمائرهم وواجبهم المقدس وتاجروا بأقلامهم فباعوا قضايا الناس البسطاء، لأن هؤلاء لا نعتبرهم من محيط الصحافة ولا المتعاونين معها، بل هم مجرد “تجار” يحكمهم الطمع والجشع، عبيد لذوي النفوذ والمال. بورتري أمحمد الرخاء أقدم مراسل ل«الخبر” بالجلفة “تعلّمت الكثير من “الخبر” والمغامرة أجمل شيء في الصحافة” اخترنا الزميل أمحمد الرخاء لأنه أول مراسل لجريدة “الخبر” بولاية الجلفة، بدأ معها مشواره في عددها الثالث شهر نوفمبر من سنة 1990، وهو من مواليد 22/04/1960 في بلدية بنهار، فيها نشأ ودرس مرحلة التعليم الابتدائي ليكمل مرحلة التعليم المتوسط ببلدية البيرين، وأما مرحلة التعليم الثانوي فدرسها بمدينة عين وسارة، ودرس التعليم الجامعي بولاية تيارت. اشتغل كعون إداري بمقر دائرة عين وسارة ثم بالبلدية، ثم بمحكمة عين وسارة بقسم الحالة المدنية، واختار التقاعد المسبق هذا العام، وهو متزوج وأب لستة أبناء، وكان محبا للعمل الصحفي، خاصة في جانبه الرياضي. وكانت البداية مع جريدة “المنتخب الرياضي” سنة 1985، وأول موضوع خضع فيه للمسابقة تغطية مقابلة اتحاد العاصمة ومولودية الجزائر بملعب 05 جويلية، ليلتحق بعدها بجريدة “المساء” في القسم الثقافي سنة 1989 ثم جريدة “الخبر” كأول مراسل لها بولاية الجلفة، وعمل معها منذ سنة تأسيسها إلى غاية 2009 حيث انقطع عنها وعمل مع جريدة أخرى، ثم عاد من جديد إلى “الخبر” شهر ديسمبر سنة 2013. يقول إنه تعلم من “الخبر” الكثير وكان ممن عمل معهم في البداية عمر أورتيلان رحمه اللّه، ورابح خليفي وحميد عبد القادر وبوطارن وجعفر وسليمان ملال ورزيقة أدرغال ومسعود دكار وعزيز ملوك وغيرهم. كما كانت له تجربة مع العمل الإذاعي خلال نهاية الثمانينيات مع إذاعة “الواحات” بغرداية في تغطية الأخبار الرياضية. ويقول عن ذكريات ظلت راسخة في ذهنه في تغطية موضوع حول الإرهاب بمنطقة “عمورة” سنة 1993، حيث تنقل صيفا فوجد الفلاحين يحملون المنجل بيد والبندقية بيد وتعرضوا لهجوم من قِبل مجموعات إرهابية نجوا منه بأعجوبة. ولا ينسى تحقيقا أجراه مع الزميلة رزيقة أدرغال ببلدية دار الشيوخ سنة 2004 حول وفاة 14 طفلا حديث الولادة، والتحقيق دام أربعة أيام جرّه إلى متابعات قضائية من قِبل مستشفى حاسي بحبح، نال فيها حكم البراءة، تماما مثل المتابعة القضائية من قِبل رئيس بلدية عين وسارة سنة 2001. وهناك الكثير من المقالب والقصص التي مازال يحتفظ بها، إلا أنه يعتبر جريدة “الخبر” تبقى متميزة في علاقة هيئة التحرير والإدارة بمراسليها في الولايات، حيث تدرك ظروفهم وتفهم عملهم وتتفطن للمؤامرات والدسائس، وجميع من يتعامل معها من المراسلين يتعلم معنى الاحترافية في العمل، والدليل أن مختلف الفعاليات والجمعيات بولاية الجلفة في كل سنة يكرّمون “الخبر” أو أحد مراسليها، وهو ما يعني تميز الجريدة ومصداقيتها وجرأتها في طرح القضايا. وما ينتظره أمحمد الرخاء هو إصدار قوانين ترفع المتعاون الصحفي وتحفظ له حقوقه وتمنحه امتيازات جزاء عمله المضاعف.