قال اللّه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الأنفال:24. وروى الإمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنَّ اللّه يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين". لقد كان القرآن الكريم عند سلفنا الصّالح أساس الحياة، وكانوا أمّة تعيش وتحيا بالقرآن الكريم؛ فجعلوا القرآن عماد حياتهم، تلاوةً وتعلُّمًا وتعليمًا وعملاً؛ فالصّغير ينشأ بتعلُّم القرآن، والأسرة تُربَّى بالقرآن، والعلم يُفتَتَح بتعلُّم القرآن وحِفْظِه، ومدارس العِلم كلّها أساسها وعمادها القرآن، ومساجدهم معمورة بالقرآن، وعباداتهم وصلواتهم، ومجالسهم وسَمَرهم، وأسفارهم وتنقلاتهم، وجهادهم وفتوحاتهم.. كل ذلك إنّما عماده القرآن، أمّا أحكامهم وقضاياهم وعلاقاتهم، فلا تخرج عنه أبدًا. روى البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي لأعرف أصوات رفقة الأشعريين باللّيل حين يدخلون، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن باللّيل؛ وإن كنتُ لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنّهار"، وعن أبي الأحوص الجشمي قال: إن كان الرجل ليطرق الفسطاط طروقًا- أي يأتيه ليلاً- فيسمع لأهله دويًا كدويّ النّحل (أي بالقرآن)، قال: "فما بال هؤلاء يأمنون، ما كان أولئك يخافون؟". هكذا كان حال سلفنا الصّالح مع القرآن الكريم؟ فكيف أصبحت حالنا معه؟ ولماذا هجرنا القرآن؟ وانطلاقًا من أنّ رمضان المبارك شهر القرآن، واستجابة للآية السّابقة، فقد أجمع المشاركين في ندوة "كيف نحيا بالقرآن في رمضان؟" على أنّ اجتهاد المؤمن في عمل الطّاعات من صيام وقيام وصبر وصدقات، تقرّبه منَ اللّه سبحانه وتعالى. الشيخ آيت سالم بن يونس “عليك بالاجتهاد من أجل الارتقاء في مدارج القُرب إلى جانب الصّيام والقيام” أفاد فضيلة الشيخ آيت سالم بن يونس، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أنّ القرآن الكريم يجيب نفسه على سؤال “كيف نحيا بالقرآن الكريم؟”، من خلال الآية المحورية في قوله تعالى: {يَا أيُّها الَّذِين آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّه وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْييكُمْ..} الأنفال:24. موضّحًا أنّ هذه الآية الكريمة “جاءت مؤكّدة لآية سابقة، ومعناها عند أكثر المفسّرين: استجيبوا للطّاعة وما تضمّنه القرآن من أوامر ونواهي، ففي ذلك الحياة الحقَة الدّائمة”. وأوضح نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أنّ الحياة لا تتحقّق “إلاّ في ظلّ عقيدة صحيحة لا شائبة فيها، وعقل مستنير بالعلم، وامتثال لشريعة اللّه الّتي جاءت لتكريم الإنسان، وتحريره من كلّ عبودية لغير اللّه”، مشيرًا إلى أنّ “نظرة واعية في الآية تنتهي بنا إلى القول: إنّ اللّه جلّ وعلا يُريد من المؤمن أن يستجيب استجابة الحرّ المأجور، لا استجابة العبد المقهور”. وأكّد الشيخ بن يونس أنّ الحياة المدعوُّ إليها في الآية هي “حياة القلب؛ لأنّه الرّاعي، وبقية الأعضاء رعيّة، ففي الحديث الصّحيح: “..ألَا وإنّ في الجسد مُضغة، إذا صَلُحَت صَلُح الجسد كلُّه، وإِذا فَسَدَت فَسَدَ الجسدُ كلُّه، ألَا وهي القلب”. ويضيف “من أجل ذلك كان تلقّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للقرآن بقلبه، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ..} الشّعراء:193”. وبخصوص مسألة إحياء قلب المؤمن، قال الشيخ آيت سالم إنّ ذلك نلتمسه في سورة الشورى حيث يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا، مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وْلَا الْإِيمَانُ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ..} الشّورى:52، مشيرًا إلى أنّ القرآن سُمّيَ “روحًا، ومعلوم أنّ بالرّوح تكون الحياة”، وأضاف “فإذا أشعّ نور القرآن في القلب أثمر في الواقع العملي المشهود، ولعلّ هذا المعنى هو المراد من قول أمّنا عائشة رضي اللّه عنها: “كان خُلُقه القرآن”. وقال المتحدث إنّ سنّة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جاءت “بيانًا لكوامن القرآن، وتطبيقًا لمقرّراته، وكأنّه غرس معاني القرآن في الأرض ليَراها المسلمون أعمالًا قائمة، ومشاريع ماثلة”. وعدَّد الشيخ آيت سالم مراتب التّعامل مع القرآن الكريم حيث قال “لا يجوز أن نكتفي من القرآن باتّخاذه أغاني على الألسنة، ولكن لا بدّ أن نجعل منه كذلك شفاء للصّدور، فنُعالج به الأدواء، ونكبح به الأهواء”. معتبرًا أنّ الغاية من القرآن “اتّباع أحكامه”، مستدلاً بقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم..} الأعراف:3، وقوله جلّ وعلا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ، وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأنعام:155. وشدّد فضيلته على أنّ الاتّباع المأمور به هو “ثمرة التَدبُّر الّذي دَعت إليه كثير من الآيات كقوله تعالى: {كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبًارَكٌ لِيَدَبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ص:29، موضّحًا أنّ اللّه تبارك وتعالى “لم يتوعّد على عدم التِّلاوة، ولكن توعَّد على عدم التدبُّر، كما في قوله سبحانه: {أفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} الأحزاب:07”، داعيًا المؤمن إلى اختيار طريق ارتقائه إلى هذا المستوى من التّعامل مع القرآن الكريم تلاوة متأنّية خاشعة متدبّرة، وقد يكون ذلك بالاستماع إذا توفّرت له الشّروط نفسها. وقال الشيخ بن يونس آيت سالم إنّ للقرآن الكريم في شهر رمضان “خصوصيات”، أجملها في نقطتين اثنتين: أنّ المسلم إذا قام باللّيل مصليًّا مناجيًا ربّه وَجَد حلاوة القرآن في قلبه، لأنّ النّفس قد صفت بالصّيام فكانت مؤهّلة لذلك، وكذلك استحباب ختم القرآن في رمضان هو تجديد للعهد مع نزوله”. ودعا نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المؤمن في هذا الشّهر الكريم إلى الاجتهاد من أجل “الارتقاء في مدارج القُرب من اللّه سبحانه وتعالى، ولتتوسّل إلى ذلك، إلى جانب الصّيام والقيام، ببرنامج عملي تستوحيه من آيات اللّه المتلوَة، كقوله تعالى: {..وَهُوَ مَعَكُمُ أَيْنَمَا كُنْتُمْ، وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} الحديد:04، أو تستمع إليه”، كما حثّه على “استشعار رقابة اللّه حيثما كان، ومحاولة استدامة هذا الشّعور” حتّى يجد المؤمن نفسه “مدفوعًا إلى الخير، محجوزًا عن الشرّ، رغبة منه في أن يراه اللّه حيث أمره، ويفتقده حيث نهاه”، وأضاف “عندما تَمُر بقوله تعالى {..وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} الحشر:09. اعزم عزمًا أكيدًا على أن تكون حاضرًا في مجالات البَذل المختلفة، في حدود ما تستطيع، وإنّك كلّما شعرتَ بشيء يحجزك عنه فهو شُحّ النّفس يُريد أن يَحول بينك وبين الفَلاح، فلتَتَّقِه ولو على سبيل التكلّف”. الشيخ محمّد الشّريف قاهر “الفرار إلى اللّه بقراءة كتابه وتلاوة قرآنه يَشرَح الصدر” قال الشيخ محمّد الشّريف قاهر، عضو المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس لجنة الإفتاء وأستاذ بالمعهد العالي للقضاء، إنّ “القرآن نور، لأنّ اللّه تبارك وتعالى سمّاه في كتابه {فيه نورٌ}، والنّور يذهب الظلام، ونور اللّه يفتح كلّ أبواب الخير، {اللّه نور السّموات والأرض}”، مشيرًا إلى أنّ “كلّ مَن كان في أمر عسير وفي شدّة وفي عُسر أن يَفرَّ إلى اللّه تعالى {ففرُّوا إلى اللّه إنّي لكم منه نذير مبين}، والفرار إلى اللّه قراءة كتابه وتلاوة قرآنه، هناك فقط ينشرح صدره، لأنّ كتاب اللّه يُمَلّ سماعُه”. وأفاد رئيس لجنة الإفتاء بالمجلس الإسلام الأعلى أنّ القرآن الكريم “يَلتجئ إليه مَن كان في حاجة إلى اللّه سبحانه وتعالى، سواء كان في حاجة دنيوية أو حاجة إلى اللّه، فيذهب إلى كتاب اللّه ويتلوه فتَنزِل عليه السّكينة والرّحمة، فترتفع آماله ويذهب يأسه وقنوطه، ولذلك القرآن الكريم نورٌ يستضيء به المؤمن ويلتجأ إليه المريض والمحتاج وكلّ مظلوم ومهموم”. وحثّ أستاذ بالمعهد العالي للقضاء المسلم على “الاستجابة للّه تعالى إذا دعاه”، مشيرًا إلى أنّ مَن وقع في أمر لا تُحمَد عقباه، إذا التجأ إلى اللّه تبارك وتعالى فإنّ اللّه تعالى “سيُسهِّل عليه ما كان صعبًا ويفتح عليه ما كان ضيقًا”، معتبرًا أنّ القرآن “كتاب اللّه المتين لا يُمَلّ سماعه ولا تُمَلّ قراءته، لأنّك لو تقرأ غير القرآن تَمِلّ، بينما كلّما ازددت قراءة القرآن ازددتَ حلاوة واطمئنانًا وخشوعًا”. وأوضح فضيلة الشيخ قاهر، في السياق ذاته، أنّه ينبغي على قارئ القرآن “أن يكون حاضر القلب لا يقرأه بلسانه فقط”، وأن يقول “يا ربّ متِّعني بسرّ حروفه، ونوّر به قلبي وسمعي ومقلتي”، وأضاف: “بسم اللّه نور، وباللّه سور، وباللّه تبارك وتعالى ينجو ويلتجئ ويعمل كلّ مَن أصيب بأيّ مصيبة وما أكثر مصائب الدّنيا”، موضّحًا أنّ الّذي استجاب للّه والتجأ إليه سبحانه سيكشف عنه ويجيبه إذا دعاهُ ويكشف عنه السّوء إن شاء تعالى، وأنّ اللّه تبارك وتعالى سيفتح له أبواب الخيرات، وهو وحده الّذي يفعل ما يُريد، وهو وحده الّذي يفتح أبواب القانطين ويقول {قُل يا عبادي الّذي أسرفوا لا تَقْنَطُوا مِن رَحمة اللّه إنّ اللّه يَغْفِر الذّنوبَ جميعًا إنّه هو الغفور الرّحيم}”. الشيخ تواتي بن تواتي “لا بدّ أن نكون قرآنيين في معاملاتنا وتجارتنا ومع أبنائنا وعائلاتنا” أشار فضيلة الشيخ تواتي بن تواتي، مفتي الأغواط وأستاذ الشّريعة بجامعة الأغواط، إلى أنّ الأمة الإسلامية الّذي حَبَاها بالقرآن الكريم وربطها بحبله المتين وبوّأها مكانة بين العالمين، عندما كانت “قرآنية الهوى، قرآنية السلوك، قرآنية التّعامل، فدانت لها الرِّقاب، وفتحت عليها الخيرات من كلّ باب”، معتبرًا أنّ “هذا الكلام يثبته الواقع والتّاريخ ولا ينكره حتّى الأعداء”. وأبدى أسفه عن حال وواقع الأمّة الحالي، متسائلاً في الوقت نفسه “هل الّذي ذكرناه يُعبِّر عن واقعنا؟ وهل نحن أمّة القرآن حقًّا؟”، ليجيب أنّ واقعنا ينطبق عليه الحديث النّبويّ الشّريف: “يأتي زمن النّاس في واد والقرآن في واد”، معتبرًا أنّ “مخالفة أحكام القرآن بادية في كثير من أفعال النّاس، وهذا مشاهد لا يَنكره أحد..”!. وقال مفتي الأغواط: “نحن على أبواب شهر القرآن، فكيف نستقبل هذا الشهر لعودة روح القرآن لنا؟”، مشدّدًا على أنّه “لا يكفي أن نتغنّى بالقرآن الكريم، ولا يكفي أن نستظهره حِفظًا”، موضّحًا أنّ المطلوب منّا “أن نتأسَّى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقد سُئِلَت عنه أقرب النّاس إليه وهي السيّدة عائشة رضي اللّه عنها فقالت: “كان خلقه القرآن”. وشدّد الشيخ تواتي على أنّ الواجب أن نكون “قرآنيين في معاملاتنا، قرآنيين في تجارتنا، قرآنيين مع أبنائنا وعائلاتنا، قرآنيين في حركاتنا وسكناتنا”، سائلاً المولى الكريم أن يَحفظ الأمّة الجزائرية ليعود لها روح القرآن كما كان أسلافنا”. أنشر على