كان يا ما كان في رديء الزمان، وغير بعيد عن شهود السلفية الحضارية والإنسانية، بالقرب من آثار إشراقات وإنجازات سالف الأيام، من أرض الشهود العلمي والحضاري للأمة، مقر بيت الحكمة، المؤسسة البحثية والعلمية، حيث أقسام التأليف والترجمة والدراسة والنسخ والتجليد والمكتبة، التي ضمت أكثر من 300.000 كتاب، وكان الخوارزمي وابن النديم وأحمد ابن موسى يلقون فيها دروسهم، إلى المدرسة المستنصرية، تلك الآية الفنية بكل مرافقها وملحقاتها على نهر دجلة، والتي لاتزال تطاول الزمن بطرازها المعماري وقاعات تدريسها ومختبراتها وغرف طلبتها. فالمدرسة النظامية وكبير مدرسيها صاحب الإحياء أبو حامد الغزالي، رموز كانت قد مهدت لها قبل ذلك عشتار وبوابتها حيث بابل وحدائقها، مؤسسات علمية وبحثية دراسية عملت ونشطت في ظل مقام وحضرة عبد القادر الجيلاني، سلطة روحية كانت تحرس وتبارك إيقاع البحث والمدارسة والتعلم كي يظل إخلاصا وصوابا، إنها الخلافة الزاهية الراسية قواعدها على أرض صلبة من العلم والمعرفة والاجتهاد والإبداع والعقيدة الصحيحة، والوعي بأسباب القوة ومواطن الضعف، والاستيعاب القوي والواضح للبعد الإنساني في عملية الاستخلاف والعمارة وليس الخلافة، استخلاف مفعم بالنزعة الإنسانية، تلك النزعة التي جعلت الأوقاف الإسلامية تمتد من المدارس والمستشفيات ودور المسنين والأيتام وغيرها، إلى وقف الفرق الموسيقية التي تزور المرضى في المستشفيات مرة في الأسبوع للترفيه عنهم، وكذا أوقاف الكلاب الضالة، والقطط العمياء والجريحة والمكسورة والخيول المسنة لرعايتها والعناية بها بعد أن طردها أصحابها. ولا تستغرب عندما تعرف بأنه قد وجد في ظل حضارة هذه الخلافة، وقف الآنية للخدم، وهو وقف يزودهم بآنية جديدة في حال كسر آنية أصحابهم، حتى لا يتعرضوا للعقاب. وتمر الأيام والأيام دول، وبفعل نزعة تسييس الدين، حلت تدريجيا محل التأنيس، وعلى أثر الصدمة الحضارية مع الغرب التي أوقعت العقل الإصلاحي الإسلامي في حالة من التخبط والارتباك، جعلته يندفع ذاتيا باتجاه التعامل وفقا لآليات الصراع مع الآخر، ومن ثم دخل دائرة المقاومة الفكرية وهو يعاني من حالة اللاتفكر ومن العطالة الفكرية، فكانت النتيجة مراوحة عند خط الدفاع الذي توقف عند مستوى السجال المسطح القائم على المفاضلات والمقابلات، الأمر الذي انتهى إلى استلاب سيكولوجي تجنيدي وتعبوي، أداته السحرية تسييس الدين والالتزام بالتدين السياسي الذي أدى حتما إلى قراءة سياسية موجهة لنصوص الكتاب والسنة “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون” المائدة 44، فأدت إلى فكرة الحاكمية التي انتقلت من المودودي وانتهت عند سيد قطب، لتبدأ تنفيذيا من التكفير والهجرة إلى خلافة حجا المعلنة في عواصم ربوع حضارة السلف في بغداد والشام عبر خطاب إيديولوجي تعبوي، الهدف منه قلب أنظمة الحكم، باعتبارها جاهلية وكافرة. وشيئا فشيئا تبلور الأمر إلى بنى إيديولوجية بائسة، يعتبر العنف أحد مركباتها الأساسية في الخطاب والفعل، وتتعامل وفق مصفوفة فكرية قائمة على الغنائم والسبي وغزو الأرض وأجساد النساء، وقتل المدنيين عند العجز عن قتال العسكريين، ثقافة عنف وتكفير مجردة من أي نزعة تأنيس، فلا علم يؤمن القدرة على الاستيعاب والاجتهاد ولا مقومات إيمانية إنسانية تردع وتؤمن عليها الانحدار إلى الشر. إنها قصة التدين السياسي عندما تصل إلى مداها الأقصى وذروتها وتبلغ محل عقدتها، فتفسح المجال لخلافة الأحمق جحا، المفتقدة للرؤية والبصيرة والحكمة، في قلب بيت الحكمة عندما جعل حجا من تسييس الدين أداة سحرية لصناعة خطاب تعبوي وتجيشي استقطب له عشرات الآلاف من الشباب الغافل الجاهل بأنه بتلبيته النداء، إنما يستبيح العقيدة ويشوّه الدين، وينحدر إلى ما هو دنيوي ومنفعي وأدنى، بفعل إدمان منطق التغلب والمغالبة المنطلق، الذي ينتهي بالإنسان عبر الممارسة إلى طبيعته المهيأة للتنازع على السلطة بكل الوسائل التي تحقق التغلب والتحكم، فكيف إذا كانت تلك الوسائل ممزوجة بالمقدس الديني ظلما وتعسفا وعدوانا. إنها الظاهرة التي يقع على قطاعات التعليم بمناهجها وبرامجها ومخابرها ومراكز بحوثها والثقافة والشؤون الدينية ومؤسسات المجتمع المدني، وكل المجالات ذات الصلة، العمل والمسارعة إلى بناء خطة إستراتيجية متكاملة هدفها تكريس فلسفة أخلاقية ونظام فكري يعيد الاعتبار للأخلاق الكونية والجماليات العليا التي تنطلق من جوهر الإسلام وأبعاده الرسالية، وتتقاطع مع المعاني التي جاءت بها باقي الرسالات السماوية والفلسفات الإنسانية، وهي مسؤولية كبرى، يؤدي الفشل في تحملها لا محالة إلى المحاصرة الذاتية للإسلام من طرف التدين السياسي ابتداء، لينتهي بتفكك الدول وموت كل المعاني وعلى رأسها الإنسان.