تمخض عن ضخ خطاب الحداثة في منظومة التفكير العربي ما يدع المجال واسعا لتأويل ظاهرة القراءة باعتبارها مشروعا في حالة البناء لم يكتمل بعد، ذلك أنه وعي يناقض فيه الإجراء النص وينماز فيه النص عن الإجراء، رسم لنا إشكالية العقدي والإنساني، العقدي وهو النص بما يحيل عليه من مرجعيات مختلفة أو بما يكونه تراثا في مفهوم نصر حامد أو زيد، فهو مصب ديني خالص، بينما الإجراء وهو العابر للنص أو المنصوص بين شولتين على أنه نتاج بشري ومحمول غربي استغرقه المصب اللاديني، بما يحيل على المخالف والمفارق لروح النص وجوهره. هذا التداخل الابستيمي الناتج عن ثورة الحداثي جعل التشرب المدرسي للمناهج يرسم خريطة تختلف فيها الرؤى ولكنها تجري كلها إلى مستقر واحد هو تجديد النظر إلى النص باعتباره محركا للواقع وجالبا للفعل من أجل الانخراط الوظيفي. وهو ما ساق لنا هذا التصادم بين بنيتين معرفيتين: القراءة الموصولة. القراءة المفصولة. أما الأولى فهي التي تشتغل بالمبدأ الشهير: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به آخرها"، والثانية فهي المشتغلة بضرورة القطع الجزئي أو الكلي مع هذا الدين / التراث لكونه خارج عن النسق العام للحداثة أو المعاصرة، القراءة الأولى احتكمت إلى النقل أو النص والثانية نصبت العقل أساسا للمنطلق القرائي، بين هذين تأسس المجال واسعا اصطنعت فيه أزمة التأسيس للقراءة ذلك أن القراءة الموصولة تتبني مقولاتها ومفاهيمها داخل نص الاعتقاد، والاعتقاد هنا ليس الإيمان، وإنما هو العقد أو الفتل الذي يتقوم به القارئ انتماء ومسايرة وتقليدا، لأن مجال القراءة الموصولة تتحقق في الاقتداء بالسلف، وكل ما يخالفها يعد خروجا عن المتعارف أو يعد ضربا من الانحراف. ولعل هذا ما يجعل الباحث / المفكر، بتعبير محمد أركون، العربي المعاصر ينكر هذا الأسلوب من القراءة وهي في تصوره قراءة اجترارية لأنها لم تقل جديدا بل لم تتجاوز آلية الترديد للمحفوظ، وهنا يقول نصر حامد أبو زيد: "لكن إشكاليات القراءة لا تقف عند حدود اكتشاف الدلالات في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، بل تتعدي ذلك إلى محاولة الوصول إلى المغزى المعاصر للنص التراثي في أي مجال معرفي"1. ما يفيد أن القراءة إضافة بل هي تتجاوز التتريث؟ الذي يتقوم فيه التراث تراثا بتعبير الجابري، هي خلق، إبداع هي تجاوز للعقل السكولاستيكي الذي هو بنية مغلقة دوغمائية2. لذلك ومن منظور القراءة المفصولة وجب قلب هذا الجهاز المقولاتي الإجرائي التقليدي النفعي والإيديولوجي إلى آخر أدائي يُفعِّل النص في واقعه ويرتهن لشروطه ما سماه نصر حامد بالقراءة المنتجة. ولعل هذا الالتباس المنهجي بين القرائتين هو الذي أدى إلى وجود طريق ثالث يدعو إلى التوفيق، ذلك أن القارئ يجد نفسه مشتتا بين عالمين، عالم قديم وآخر جديد يحتاج إلى الربط والصياغة: "و إذا كان القارئ ينتمي إلى عصر والمقروء ينتمي إلى عصره المقابل فإن العلاقة بينهما علاقة انفصال لا محالة، لكن هذا الانفصال سرعان ما يتحول إلى اتصال على مستوى البعد القيمي الذي ينطقه النص المقروء والذي يتجاوب أو يتنافر مع البناء القيمي لعالم القارئ"3. وعليه فالحاجة إلى قراءة النص "هناك" تدعمها الأسيقة الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية "هنا" لأن الاستدعاء لا يكون عبثا بل لا بد من توافر الحاجة هنا، الحاضر ووحده الراهن، الحدث هو الذي يحدد كيفية انخراط التراثي في الآني. أما معضلة الإشكال، في تصوري، لا تكمن فقط في الحاجة إلى استجلاب التراثي بالمفهوم الواسع إلى الحاضر بل هو يتعلق بالوعاء المعرفي الذي يستدعي فيه التراث أو النموذج الذي نستدعيه لينخرط في حاضرنا من أجل أو فك بعض عقده. وهنا نعدد أهم المآزق المعرفية التي حالت دون تمكين القراءة المفصولة، وهذا ما يعدده "طه عبد الرحمن" في كتابه: "روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية" ولعلها ليست عيوبا أو عورات بالمعنى الذي قصده طه عبد الرحمن، لأنه افترض قالبا وضع فيه حجته، بل إنه جعل للعقدي أولوية على العقل مما انصرف معه العقل إلى مكون هامشي، وهي حركة معروفة تهدف دوما إلى أسلمة العلوم الاجتماعية، فخطها إيديولوجي واضح و لعل هذا يؤاخذ عليها طه عبد الرحمن أنه لم يصرف بحثه إلى المعرفي النفعي بل صرفه إلى النفعي الإيديولوجي يقول طه عبد الرحمن: "إذ تقرر أن الوجه الذي تحقق به قراءة القرآن حداثيتها هو أن يكون تكون قراءة انتقادية لا اعتقاديه، فقد وجدت بين أظهرنا محاولات لقراءة بعض الآيات القرائية على هذا المقتضى الانتقادي، ونذكر منها على وجه الخصوص قراءة "محمد أركون" ومدرسته بين التونسيين ممثلة ب"عبد المجيد الشرفي" وفريقه في تونس وأيضا تونسيين آخرين يقيمون بباريس من أمثال "يوسف صديق " وقراءة نصر حامد أبو زيد" وقراءة الطيب تزيني" 4. هذا التصور مذكور آنفا هو تصور القراءة الحداثية كما صرح طه عبد الرحمن، لا القراءة الاعتقادية ومن أهم الدعاوي أو الآليات التي تحتكم إليها القراءة الانتقادية هي: خطة التأنيس: يقول "والآلية التنسيقية التي تتوسل بها خطة التأنيس في إزالة هذا العائق الاعتقادي هي نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري (...) ويؤدي تطبيق هذه العمليات المنهجية التأنسية إلى جعل القرآن نصا لغوي مثله مثل أي نص بشري"5. مما يعني أن النص القرآني يصبح تركيبة بشرية في السياق لأنه ينتمي إلى الثقافة اللغوية للقارئ مما يجر معه استلاب النص من مصدره "المرسل". خطة التعقيل: "وآلية التنسيق التي تتوسل بها خطة التعقيل في إزالة هذا العائق هي التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة" 6. وهذا يستلزم ما قاله نصر حامد أبو زيد من أن الخطاب القرآني كغيره من الخطابات: "إن كل الخطابات من حيث هي خطابات، وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه للحقيقة" 7. حاول طه عبد الرحمن، أن يقدم نقدا إبداعيا من خلال إثبات التهافت الذي وقعت فيه القراءات الانتقادية وهي قراءات وصفها بالحداثية، ورغم أنه لم يسلط عيلها آليات الاقصاء فوقيا إلا أنه وفي لغة خطابه التقليدية قد أفرغها من حيث لايدري من الاتصال الاعتقادي على شروطه وفرضياته وهذا ما لم يدعه الخصم مطلقا هذا الإعتساف من طه عبد الرحمن هو من جعله يقول بأسلمة المعرفة، ومن ثمة القول بتهافت القراءة الجديدة، ولعمري إنني حين أقرأ لطه عبد الرحمن أجده يصك كلامه على طرق القدماء في تخير اللفظ وتفننه مما يجعله مقلدا مخبوء في لسان مجدد. أم القول في التأنيس فهذا ما لا يمكن أن يتنصل منه طه عبد الرحمن نفسه فكيف بغيره وقد جعل حجة مجاله التداولي ميزانا من أخذ به فقد أخذ بحظ وافر ومن تركه فكأنما قد اخترق معلوما من الدين بالضرورة، والتأنيس عند الحداثيين ليس إنزالا بل هو ارتقاء، كيف يمكن للقارئ أن يفصل بين الجوانب المختلفة: العقيدة /الخرافة / الأسطورة / الحكاية.. ثم إن طه عبد الرحمن يعتقد أن الحداثة ليست تقليد للغير وإنما هي الاتيان بما يضاهيه، فكيف تكون المضاهاة إن لم يكن لنا سبق معرفة بإنتاج الغير، لا يحصل التفوق إلا بعد استيعاب العلوم من شرقها وغربها فالمعرفة أخذ طلبها أولا ثم التمكن منها، وكيف يحصل التمكين إن لم تمارس المعرفة على الحياة. إذا فالتأنيس والمؤانسة حاجة إنسانية لا يمكن الفكاك منها في تصور الحداثيين وأعتقد أن مبدأ التأنيس ليس جديدا أو بدعة جديدة وإنما عرفناها عند الفلاسفة الإسلاميين، وقد تأصلت هذه الدعوى في معارفنا منذ الفتح المعرفي الرهيب نتاج ترجمة الفلسفة الأرسطية، فكما يقول أبو يعرب المرزوقي: "فاللحظة التاريخية التي نعيشها منذ قرنين نقف منها موقفا عدميا لكوننا نعتبرها مما لا يستأهل الوجود، فنعمل كل ما نستطيع لنفيها وتعويضها بما نعتبره جديرا بالوجود، سواء كان من ماضينا أو من حاضر الغرب بدلا من دراستها وفهمها لتغييرها بحسب العمل على علم. وإذن فلست هذه الغربة ناتجة عن موقف الفقهاء من الفلاسفة فحسب، مع أنها عامل مهم، بل هي بنت المنزلة والموقف اللذين اختارهما الفلاسفة (...) كنا نتمني أن يقوم الواحد منهم بمثل ما قاما به علاجا علميا وما بعد علمي لظاهرات الطبيعة أو الشريعة وما بينهما من نسب متبادلة" 8. ولقد وجد المدخل الديني فيما يقول أبو يعرب المرزوقي فيما حصل من توحيد بين البعدين الروحي والإنساني في فلسفة هيغل وهذا ما تمثله القراءات الحداثية بالنسبة لنصر حامد أبو زيد: "ولابد من الإشارة إلى أن المقابلة بين الطبائع والشرائع لم تعتبر مقابلة بين الضرورة والحرية لأن الفلاسفة قد ظنوها مقابلة متعالية على أثرها في علم الإنسان وعمله (انفعالا بها لعمها وعملها) ومتجاوزة لهما إلي أن جعلهم النقد الديني يدركون أن ما آلت إليه صيغة الإشكالية في الفكر الفلسفي مصدره المقابلة القطعية بين علم الطبيعة وعملها وعلم الشريعة وعملها" 9. يهدف طه عبد الرحمن إلى استبعاد الشخصي وإثبات العقدي ومن ميزات الشخصي التعقيل أو تحكيم العقل في فهم النص، لذلك جاء مفهوم العقل مشوشا ومضطربا لأنه نتج عن هذه الوصاية التقليدية مع أن العقل له نظامه الخاص الذي يشتغل وفقه، له وجوده المفارق عن النص، فتدخله لا لإعادة بناء النص وإنما لفهم النص وتمثله وفق شرائط الواقع وهو لا يعني البتة التعطيل بل هو التبجيل حين يحافظ النص على حيويته ولقابليته لعدد لا نهائي من العقول القارئة. على اعتبار "إنه لا وجود إلا للعقل". ودلالة الوجود هنا جزئية لا تحيل إلى الكلي، تختص بالعقل البشري لاعتباره المفارق للنصوص بشرية كانت أم إلهية، وهو لم يتدخل في صياغة هذه النصوص بل يحاول فهمها وعرضها على الزماني والمكاني من أجل انخراطها في هذا الإطار التاريخي. وهنا نطرح التساؤل الملح، لماذا احتاج النقاد المعاصرون إلى تقويم وضبط العقل لممارسة النقد الحداثي؟ أتصور أن العقل في المفهوم العربي بقي أسير الدلالة المعجمية التي تحيل على "عقلت البعير قوائمها" إذا ضبطت وقيدت وأحكمت، جرى هذا الإلجام اللغوي إلجاما متكررا مما أدي معه إلى مصادرة العقل بالاستناد إلى المنطق التبريري إنه يحتاج الضبط والوقوف عند المنتهى، وهي مصادرة معجمية قادت العقل العربي إلى ما هو عليه من حالات السجن؛ سجنه لغويا / نظريا، وسجنه عمليا / ممارسة. بقلم: د/ اليامين بن تومي
مراجع الدراسة: -1 نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، بيروت. -2 محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الاسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة 2، 2002. -3 جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006. -4 طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، بيروت، 2006. -5 نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، بيروت.. 6 أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي، النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي الإسلامي الراهن، دار الفكر المعاصر ،بيروت ط1، 2003. 7 martin Heidegger . le principe de raison ; traduction andré préan ed gallimard 1962 .page : 43. -8 عل حرب الممنوع والممتنع، نقد الذات المفكرة، المركز الثقافي العربي الدارالبيضاءبيروت، ط2. 2000. - نصر حامد أبو زيد، إشكاليا القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، بيروت، ص: 6.1. -محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الاسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة 2، 2002، ص : 18.2. - جابر عصفور، قراءة التراث النقدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006 ص 14.3. - طه عبد الرحمن، روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، بيروت، 2006. ص :177. 4. - المرجع نفسه، ص: 178.5. - المرجع نفسه .ص: 181.6. - نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، بيروت، ص: 8.7. أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي، النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي الإسلامي الراهن، دار الفكر المعاصر، بيروت ط1. 2003.ص ص: 17 -188. -المرجع نفسه .ص: 66.9. -martin Heidegger . le principe de raison ; traduction andré préan ed gallimard 1962 . page : 43.