قادني هذا الإدمان إلى اكتشاف أسماء روائية كبيرة قادمة من بلاد الثلج.. على غرار هيننغ مانكل، آكي إدواردسن وكاميلا لاكبرغ (السويد)، والأيسلندي آرلاندور اندريداسون، وجو نيسبو، وغونار ستايسلانسن، وكارين فوسوم من النرويج، والفنلندي ماتي أرجانا جوانسو، والدنماركي جوسي أدلر أولسن. وقد ترجمت العديد من أعمال هؤلاء إلى العربية بفضل "الدياسبورا" العراقية المقيمة هناك. وما أن تشدك رواية من تلك الروايات القادمة من بلاد الثلج حتى تُدمن عليها. تجد نفسك المولعة بكسر الحدود والسفر بلا تأشيرة، أمام عالم روائي فريد يمتد عبر السويد والدانمارك والنرويج وأيسلندا وفنلندا. تأسرك هذه الروايات وتسكنك. تظن في البدء أنك بصدد رواية ترفيهية لتمضية الوقت مثلما كنت تفعل في ذلك الزمن البعيد من عمرك اليافع، وأنت تقرأ روايات “جورج سيمنون”، أو “آغاثا كريستي”. بيد أنك سرعان ما تكتشف عالما روائيا مغايرا. فمن قرأ رواية “ميلنيوم” بأجزائها الثلاثة وقال إنه قرأ رواية بوليسية، فهو مخطئ تماما. لا أعتقد أن “ستيغ لارسون” كتب “ميلنيوم” وفي ذهنه كتابة رواية بوليسية. أظن أنه كتب رواية اجتماعية وسياسية في قالب بوليسي. قادني هذا الإدمان إلى اكتشاف أسماء روائية كبيرة قادمة من بلاد الثلج.. على غرار هيننغ مانكل، آكي إدواردسن وكاميلا لاكبرغ (السويد)، والأيسلندي آرلاندور اندريداسون، وجو نيسبو، وغونار ستايسلانسن، وكارين فوسوم من النرويج، والفنلندي ماتي أرجانا جوانسو، والدنماركي جوسي أدلر أولسن. وقد ترجمت العديد من أعمال هؤلاء إلى العربية بفضل “الدياسبورا” العراقية المقيمة هناك. وظل اسم السويدي “هينيننغ مانكل” من أبرز الروائيين الذين ارتبطتُ بهم. شدتني شخصية “كورت فلاندر” المحقِّق المضطرب والحائر الذي لا يملك مواصفات البطولة الخارقة مثل “جيمس بوند”، والذي يعاني من مرض السكّري، والمُعاقر للخمرة المُدمن على التدخين، وغير القادر على خلق علاقات طبيعية مع النساء، والذي ينتهي به الأمر إلى الإصابة بمرض “الزهايمر”، حتى قبل أن يتخلى عنه “مانكل” سنة 2009. يعد مانكل من أشهر روائيي الرواية البوليسية الاسكندينافية. سافر كثيرا عبر العالم، وكان له صولات وجولات عبر القارة السوداء منذ سن مبكرة، فوقع في عشقها. ومنذ عام 1985 استقرّ في “مابوتو” بزامبيا، حيث أسَّس مسرحاً محترفاً أخذ تسمية “تياترو أفينيدا”. في 1991، نشر روايته البوليسية الأولى بعنوان “قاتل بلا وجه”، فظهر المفتِّش “كورت فلاندر” لأول مرة. تدور أحداث الرواية التي جاءت بأسلوب طافح بالخيال والإثارة وبتوابل الرواية البوليسية، في قلب الريف السويدي، في مزرعة نائية بقرية “إيستاد” تعيش على وقع العزلة، يستيقظ أهلها فجأة على وقع جريمة مروِّعة. وجعل مانكل ضحيته تردِّد، وهي على فراش الموت، كلمة “غريب”، فانتشر الخبر كالنار في الهشيم، واستيقظت في القرية شياطين العداء تجاه الأجانب، لتعالج الرواية في قالب بوليسي مشكلة الميز العنصري، وتؤسِّس لرواية بوليسية تختلف عن الروايات التي تعوَّدَ عليها القراء في الغرب، والتي كانت تتمحور حول فكرة البحث عن القاتل دون الالتزام بمواضيع سياسية، مثلما نجد في روايات “جورج سيمنون”. اختار مانكل الرواية قصد إبلاغ أفكاره والتزامه السياسي لقرّائه. لمّا عاد إلى السويد بعد غياب طويل، وجد المجتمع غارقاً في الإخفاق، نتيجة تراجع العلاقة بين السويديين والجاليات الأجنبية، وكذا جرّاء إدراكه أن “يوتوبيا” الديمقراطية الاجتماعية سجّلت بدورها تراجعاً كبيراً. فتحت رواية “قاتل بلا وجه” طريق النجومية أمام مانكل. ترجمت لأكثر من 23 لغة، واهتمّ العالم بشخصية المفتِّش “كورت فلاندر” اهتماماً منقطع النظير، بسبب نزعته الإنسانية واهتمامه الشديد بآلام البشر. وتمحورت باقي روايات “مانكل” حول المفتِّش نفسه الذي حقَّق في قضايا عديدة بقرية “إيستاد” الهادئة التي تتحوَّل-فجأة- إلى بؤرة لجريمة مروِّعة. ولم يغادر فلاندر إيستاد إلا في روايتين هما “كلاب ريغا” (1992) حيث توجَّه للتحقيق في جريمة بليتوانيا، ليصطدم هذه المرة بالمافيا التي نسجت علاقات متينة مع الروس، ورواية “اللبؤة البيضاء” التي انتقل من خلالها للتحقيق في جنوب إفريقيا، ليجد نفسه وجهاً لوجه مع العُصب السياسية في هذا البلد. عاد “فلاندر” إلى “إيستاد” الهادئة في رواية “الرجل الذي يبتسم” (1994)، لكن هذه المرة بدأت تظهر عليه علامات التعب والمرض، فراح يفكِّر في الاستقالة من منصب عمله كمفتِّش، ليتراجع عن قراره ويمزِّق استقالته عقب مقتل أحد أصدقائه في القرية الهادئة، فيشرع في التحقيق في جرائم الشركات الرأسمالية الكبرى، ليتحوَّل إلى “محارب في عزلة” في رواية أخذت العنوان نفسه، صدرت سنة 1995. استمرّ المفتِّش “كورت فلاندر” في الظهور بانتظام إلى غاية سنة 2009 في رواية “الرجل المُزعج”، وقد أنهكه مرض السكري، وغرق في المتاهة. لكن مانكل قرَّر إعادته مرّة أخرى العام الماضي في رواية “يد مُربكة”، وهو أكثر قلقاً ومرضاً وشعوراً بالوحدة والضياع والقرف من الحياة. نشعر مع مانكل، ورواياته الطافحة باللذة، أن أكثر البشر حساسية يتحولون إلى الكتابة الروائية بمجرد ما يدركون تراجع “اليوتوبيا” وانكسار الحلم.