قررت أن أحكي لكم اليوم، قصة بلدة ”غرامادو” الواقعة على مسافة 115 كيلومتر شمال مدينة ”بورتو أليغري” في جنوبالبرازيل، أين تنتهي اليابسة وتبدأ حدود جغرافيا القطب المتجمد الجنوبي. هنا درجات الحرارة القصوى لا تتجاوز العدد 15 في منتصف النهار، وتبدأ في النزول لتصل إلى 3 درجات في الليل. أولى خطواتك في شوارع المدينة تلفت انتباهك النظافة، تلك الأرصفة المهيأة بإتقان كبير، الإنارة العمومية، الورود على جنبات الطريق، محلات مزينة الواجهات بأجمل المنتجات، مواقف للسيارات، سائقون يحترمون قانون المرور. والأهم من كل ذلك، لا وجود لرجال الشرطة في مفترقات الطرق ولا سيارات الدوريات، ولا ترى بقايا السجائر والبصاق على الأرض. انتظرت طويلا قبل أن أقطع الطريق عبر ممر الراجلين، هذا الممر هو نفسه الموجود عندنا. وقفت أنتظر برفقة زميلي فريد وعبد الغني، أدوّر رأسي أبحث عن الإشارات الضوئية التي تركت مكانها لألواح إشارات لا ضوء فيها.. كتبت عليها أسماء الشوارع والساحات، مقطعة وكأنها تحفة فنية لإرشاد الماشي والسائق على الاتجاهات. من يكون هؤلاء البشر؟ هل هم من طينة بني آدم، أم طينة أخرى من عالم آخر؟ سألنا مرافقتنا ”برونا”، فتاة برازيلية، والدها من أصول إيطالية وأمها من المنطقة، فأجابت: ”سكان غرامادو ينحدرون من أصول ألمانية وسويسرية وبرتغالية وإيطالية..”. ومع مرور الزمن، شكّل الجميع قطعة من لوحة فسيفسائية رائعة الجمال لشعب خلقه الله وأسكنه في أرض ”البرازيو”، (هكذا ينطق البرازيليون اسم وطنهم). كنت أتجول في الشارع الرئيسي لبلدة غرامادو، وفي ذهني بلدات بلادي، وتساءلت مثلما يتساءل جميع الجزائريين عندما يسيحون في أرض الله الواسعة، لماذا لا نكون مثل هؤلاء ”الغرامدينشيين” على الأقل في نظافة المحيط؟ سألت ”علاوة”، التاجر القادم من أعماق مدينة قسنطينة، هل وجدت شيئا يشبه مدينتك، فأجاب: ”محال أن يكون في قسنطينة ما يشبه غرامادو”. «علاوة”، مناصر يقترب عمره من الخمسينات، أصلع، تزين ملامحه سكسوكة (بوكلة) نبتت في البرازيل، يلخص بجوابه المقتضب وهو يسرع بالنزول من غرفته ملتحقا بزملائه للاستمتاع بليل البلدة البارد، ما يقوله الكثير من الأنصار. لا أبالغ إن أعلنت أننا ”قد غفرنا لشركة سياحة وأسفار الجزائر كل ما اقترفته في حق الرجال والنساء والأطفال”، الذين أبوا إلا أن يرافقوا ”الخضر” في ملحمة المونديال الأمازوني. موطن الشكولاطة هنا في غرامادو تنتشر محلات بيع وتناول الشكولاطة.. أي إنها عاصمة الشكولاطة في ”البرازيو”. وعن السبب، تقول برونا، ابنة 16 سنة، وتدرس اللغة الإنجليزية، وتستغل أوقات الفراغ من أجل العمل مترجمة لصالح مكاتب الأسفار والسياحة، إضافة إلى مساعدة والديها في تسيير مطعم تقليدي بالبلدة، يكمن في أن البلدة قطب إنتاجي متخصص في الصناعات الغذائية. ومن الناحية الاجتماعية، ينبغي ألا ننسى أن أكثرية السكان ينحدرون من أصول سويسرية، وأترك لكم مجال تخيل ما بإمكان العقل البشري أن يبدع إذا ما توفرت المادة الأولية، وهي السكر والكاكاو والبن (القهوة). غير بعيد عن الكنيسة الرئيسية بالبلدة، يقع مقهى الشكولاطة، وهو فضاء مصمم في شكل منزل خشبي واجهاته زجاجية تزينه طاولات ومكاتب عرض أجود أنواع ما ينتج من شكولاطة في البرازيل.. الناس يقصدون هذا المقهى أو قاعة الشكولاطة، لتذوق قطعا لا يصبر على ”حلاوتها” العاقل. سياحة بيئية تصنف البلدة كذلك في صدارة المناطق البرازيلية الاكثر جذبا للسياح والزوار من عدة جنسيات، بفضل منتجها السياحي الحديث والذي يعرف هنا بالسياحة البيئة ”إيكوتوريزمو”.. فهي تزخر بالشلالات والحدائق والغابات التي لم تمتد إليها أيدي الإنسان والإسمنت المسلح.. ولا غرابة أن تفتك هذه البلدة الصدارة في مجالها، فكل مبانيها مشيدة بنسبة كبيرة من الخشب ومواد البناء المحلية كالحجارة، مع استعمال كوادر الألمنيوم لحمل النوافذ لنظافته وأيضا للتقليل من نفقات الصيانة والطلاء. بعبارة أخرى، ”غرامادو” مدينة صديقة للبيئة وسكانها أصدقاء للطبيعة، عقدوا عقدة زواج كاثوليكي لا طلاق بعده، تقوّيه سلوكياتهم اليومية. لمَ لا وهي محطة رئيسية في مسلك سياحي عالمي يطلق عليه مسلك الرومانسية.