كشف الدكتور محمد خوجة، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر، أن عدد الجنود الجزائريين الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى بلغ أكثر من مائة واثنين وسبعين ألف جندي، قتل منهم خمسة وعشرون ألفا. وأشار خوجة، في حوار مع “الخبر”، استنادا لمقولة تركها فرحات عباس، إلى “أن هؤلاء الجزائريين ماتوا وهو لا يعرفون لماذا يحاربون”. بعد مائة سنة من اندلاع الحرب العالمية الأولى، هل أمكن تجاوز دور مشاركة آلاف الجزائريين في المعارك إلى قضايا أخرى متصلة بعمق النقاش التاريخي وحتى السياسي عن الحرب العالمية الأولى؟ إن هناك حقائق لا يراد الكشف عنها في دور الجزائريين إلى جانب غيرهم من دول المغرب العربي أو إفريقيا الغربية في تغيير مسار الحرب العالمية الأولى. في مذكرات الجنرال ڤاليني الحاكم العسكري لباريس عند اقتراب الألمان من باريس، ونزوح الحكومة الفرنسية إلى مدينة باردو، اعترف صراحة بأن وصول الفرقة العسكرية الجزائرية أعطاه الأمل وعزز روح المقاومة والانتقال إلى الهجوم، بعد أن كان شعر باليأس من قدرة باريس على الصمود، والغريب هو الإصرار على تغييب الدور المهم لهذه الفرقة الجزائرية في تشكيل خطة ومعركة المارن الأولى، التي غيرت مسار الحرب، حيث إنها أوقفت تقدم الألمان، وتحول شكل الحرب إلى مواجهة شاملة بين قوات تتواجه على الخنادق. ثم إن إدانة الكولونيالية الفرنسية في الجزائر وتكريس ذلك لدى الرأي العام الفرنسي، لدفع الحكومة الفرنسية إلى الاعتراف بالجرائم التاريخية لفرنسا في الجزائر، يتطلب في ما يتطلب إظهار الحقيقة التاريخية في أن صمود فرنسا في الجبهة أمام الألمان، كان ثمنه أيضا تجنيد الآلاف من الجنود والعمال الجزائريين بالقوة، سواء في الجبهة أو في المصانع والمزارع بأكثر من 300000 جزائري، 019 172 جندوا وحاربوا طيلة فترة الحرب العالمية الأولى، قتل منهم 711 25 جزائري، أو كما قال عباس فرحات ماتوا وهم لا يعرفون لماذا يحاربون، و8779 معطوب بنسبة 100 بالمائة. إن المجهود العسكري الجزائري لم يقتصر على الجانب البشري فقط، بل عانت الجزائر أيضا في المجال الاقتصادي والمالي، بالضرائب الباهظة التي دفعها الجزائريون طيلة فترة الحرب العالمية الأولى، ما تسبب في هجرة عدد كبير من الجزائريين، وحدوث كوارث إنسانية في مناطق كثيرة في الجزائر، تتطلب التوثيق. إن الحرب العالمية الأولى أدت إلى حدوث انطلاقة جديدة للحركة الوطنية الجزائرية بمختلف مكوناتها، ما يفرض اليوم الكشف عن مسار هذا التحول الذي وقع، وعن مقوماته ومكوناته، وعن البيئة الحاضنة له في الداخل كما في الخارج. في الشرق الأوسط، ترتبط الحرب العالمية الأولى بحلول بريطانياوفرنسا محل الدولة العثمانية في الهيمنة على الدول العربية، هل ما يحدث في العالم العربي هو استمرار لمخطط سايكس بيكو؟ أم هو مرحلة من مخطط آخر بصياغة أمريكية روسية؟ من الصدف ذات الدلالات العميقة أن نفس المناطق التي تضمنتها تفاهمات سايكس بيكو لسنة 1916، ما عدا الأردن، هي نفسها المناطق الأكثر اضطرابا في العالم، وهي سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، الذي تغير هو حجم المعاناة واستمرارها، وأيضا انتشارها إلى مناطق أخرى من العالم العربي كانت بعيدة عن سايكس بيكو كمصر وليبيا. من السهل الجزم بأن نيران الحرب العالمية الأولى لاتزال ملتهبة في الشرق الأوسط، ومع وجود نصف مخزون العالم في ما يخص المحروقات من جهة، والهيمنة الإسرائيلية من جهة أخرى، من الصعب الاعتقاد أن المنطقة ستعرف استقرارا يخدم شعوب المنطقة على الأقل في المدى المنظور. انطلقت الحرب بسبب اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند، وقيام الإمبراطورية النمساوية بشن حرب ضد صريبا بسبب هذا الاغتيال، ما أدى إلى إشعال الحرب العالمية الأولى، من الذي خطط ونفذ حادثة الاغتيال؟ هناك مصادر كثيرة تناولت الحادثة، فأكثر من ألف كتاب نشر فقط حول حادثة اغتيال فرانز فرديناند ولي عهد النمسا وزوجته صوفي كوتك في سرايفو. ورغم تراكم عوامل الصدفة والارتجال في عملية الاغتيال، فإن البحث التاريخي تركز حول تحديد هوية من خطط وأمر بالاغتيال؟ هل هو حكومة الصرب؟ كما ادعت حكومة النمسا عندما أعلنت الحرب عليها يوم 28 جويلية 1914؟ أم أن هناك جهة أخرى فعلت ذلك لأسباب بقيت مجهولة ولكنها ساهمت في تسريع الحرب بين النمسا وصربيا؟ والحقيقة أن الدراسات كشفت عن دور محوري لقائد المخابرات العسكرية، العقيد دراڤوتين ديمترفيش أو ابيس الاسم الذي اشتهر به، في تخطيط وتنفيذ عملية اغتيال ولي عهد النمسا، وقد تطلب مرور زمن طويل للحصول على الصورة الكاملة لهذا الدور. وهل كان الاغتيال هو السبب في اندلاع الحرب العالمية الأولى؟ لم تكن هناك علاقة مباشرة بين مقتل ولي عهد النمسا واندلاع الحرب العالمية الأولى، فالحادثة لقيت إدانة من مختلف العواصم الأوروبية، وتوقف الأمر عند هذا الحد، وكان أغلب أعضاء الحكومات الأوروبية يقضون عطلة الصيف بعيدا عن مكاتبهم، وشهرا بعد الحادثة لم يكن هناك ما يؤشر على أن حربا ستندلع في أوروبا، لكن حكومة النمسا وجدت أن الظروف مهيأة لتوجيه ضربة وقائية لصربيا التي باتت تهدد بقاء الإمبراطورية النمساوية المجرية، التي تضم أكثر من 12 قومية أوروبية، غير أن وثائق كثيرة تظهر أن تصلب الحكومة النمساوية ورغبتها في شن حرب ضد صربيا، مرتبط بالدور الذي مارسه قائد الجيش النمساوي فرانك كونراد هتسندورف الذي كان قد قام بأكثر من 10 محاولات لجر الحكومة نحو حرب ضد صربيا سنة 1913. كان قائد جيش النمسا على وشك فقدان منصبه، فقد كان الإمبراطور فرنسوا جوزيف لا يطيق بقاءه على رأس قيادة الجيش، لولا التدخل المستمر لصديقه فرنسوا فرديناد، لكن الغريب أن كل الأطراف التي صعدت وانساقت وراء الحرب في البداية، كانت تعتقد أنها تريد أن تضمن الدفاع عن بقاء دولها، وأن الحرب ستكون محدودة “سيعود الجنود قبل احتفالات أعياد ميلاد، حاملين الزهور على فوهات البنادق”، كما قال الروائي النمساوي ستيفان زفايغ. على من تقع مسؤولية اندلاع الحرب إذن؟ إلى اليوم ليس هناك إجماع لدى المؤرخين حول تحديد الطرف الذي يتحمل وحده مسؤولية اندلاع الحرب العالمية الأولى، ولا حتى الأسباب التي أدت إلى اندلاع هذه الحرب، بل إن لب الغموض الذي يكتنف دراسة الحرب العالمية الأولى يأتي من هذه القضية. وما هو مثير أنه في كل فترة تظهر فرضيات ومقاربات جديدة للكشف عن سبب اندلاع الحرب العالمية، ففرضية الاستقطاب السياسي والعسكري الذي عرفته أوروبا آنذاك بين كل من دول التحالف الثلاثي الذي ضم الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية وإيطاليا من جهة، وفرنساوبريطانيا وروسيا من جهة أخرى، لا يفسر اندلاع الحرب، لأن هذه التحالفات لم تكن تتضمن التزامات وتعهدات دفاع مشترك، بقدر ما كانت تحالفا سياسيا تشكل بعد رحيل بسمارك عن الحكم، وقيام الإمبراطور الألماني غليوم الثاني باعتماد سياسة مغايرة، أدت في النهاية إلى حدوث اقتراب بين دول كانت تتنافس على المستعمرات في آسيا وإفريقيا، وهي فرنساوبريطانيا وروسيا، وقدم المؤرخ البريطاني أي جي بي تايلور تفسيرا مثيرا مفاده أن الحرب العالمية الأولى اندلعت، وتصوري أنه لا أحد يستطيع أن يجيب على هذا السؤال بشكل حاسم وينهي الجدل حول تحديد مسؤولية الطرف الذي تسبب في اندلاع الحرب الكبرى، كما كانت تسمى، يكفى أن نعرف أن دراسة موضوع اندلاع الحرب العالمية الأولى هو الموضوع الأكثر جدلا في التاريخ المعاصر.