إنّ أيّ عاقل يحرص الحرص كلّه على أن يكون في زمرة المفلحين وصفوة النّاجحين، وكيف لا يهتم العاقل بهذا الأمر الخطير الّذي يقرّر مصيره ونهايته؟ وكيف لا يبحث الإنسان عن طريق النّجاح وسنّة الحياة تعظه أنّه مسافر سفرًا قصيرًا في هذه الحياة ليس إلاّ؟ ولأهمية هذه القضية ومركزيتها في حياة النّاس لم يتركها الله عزّ وجلّ لاجتهاد النّاس الّذين عادة ما يختلفون وتتضارب آراؤهم كلّما اجتهدوا في قضية ما؛ بل صرّح الله عزّ وجلّ بطريق الفلاح ووضعه في قاعدة إيمانية وآية قرآنية: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى}. يقول العلامة ابن عاشور: [وقد جمعت أنواع الخير في قوله: {قَدْ أفْلَحَ} فإنّ الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه؛ فهو يجمع معنيي الفوز والنّفع، وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير. والإتيان بفعل المضي في قوله: {أفْلَحَ} للتّنبيه على المحقّق وقوعه من الآخرة، واقترانه بحرف قد لتحقيقه وتثبيته، كما في قوله تعالى: {قَدْ أفْلَحَ الْمُؤْمِنُون}، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}؛ لأنّ الكلام موجّه إلى الأشقين الّذين تجنّبوا الذِّكرى إثارة لهمّتهم في الالتحاق بالّذين خشوا فأفلحوا. ومعنى تزكّى: عالج أن يكون زكيًّا، أيّ بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى: {قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّاهَا}. فمادة التفّعل للتكلّف وبذل الجهد، وأصل ذلك هو التّوحيد والاستعداد للأعمال الصّالحة الّتي جاء بها الإسلام ويجيء بها”. لولا أهمية هذه القاعدة لَما قدّم لها الله عزّ وجلّ في سورة الشّمس بأحد عشر قَسَمًا: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}. والله عزّ شأنه لا يُقْسِم إلاّ على عظيم ذي بال كبير، حتّى قال أعرابيّ بفطرته لمّا سمع آية من آيات القسم: من أغضب الرّحمن حتّى أقسم؟ فهذه الحقيقة {قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى} هي الحقّ المطلق لمجرّد ورودها في القرآن ولكن القسم ينبّه على خطورة الموضوع وأهميته للمعتبرين! ومن أهميته كذلك تعلّق التّزكية بالرّوح الّتي هي حقيقة الإنسان ولبّه وأساس استقامته وسعادته وفلاحه في الدّنيا والآخرة، فلا يفرّط في التّزكية إلاّ مَن هانت عليه نفسه، واغترّ بمهلة الله سبحانه!