أعلن، أمس، عبد القادر بن صالح تنحيه عن منصب الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي، بعد أسابيع من الترقب، رافقت هزة داخلية “هادئة” من إطارات (وزراء ونواب) يدعونه إلى التخلي عن قيادة الحزب، في تطور فاجأ مناضلي الأرندي مثلما فاجأ الطبقة السياسية، وأحزاب راحت تستقرئ في “ماذا وراء تنحية بن صالح وعودة أويحيى؟ وأي دور مستقبلي للرجل الثاني بالدولة؟ وهل للحراك الداخلي بالأرندي علاقة بترتيبات تقوم بها السلطة ستعلن عنها مستقبلا؟ غاب عنصر المفاجأة عن الرسالة التي بعث بها أمس الأمين العام للارندي الذي لم يمكث بمنصبه أكثر من عامين، لأن قرار بن صالح كان جاهزا وينتظر فرصة للانكشاف. وفي الوقت ذاته ترقب بن صالح مطولا إشارة من رئاسة الجمهورية توضح له ما يجري فجأة بأروقة “النخبة” في الأرندي، باعتبار أن كثيرا ممن زكوه أمينا عاما خلفا لأويحيى هم أنفسهم انقلبوا عليه، مثلما انقلبوا على أويحيى، وحاليا يرسلون له برقيات الأماني بالعودة، ليقينهم أن أمر عودته إلى مكتبه ببن عكنون كان أمرا مقضيا ولم يكن ينتظر حتى يتحرك هؤلاء. كتب بن صالح رسالة من ثلاث صفحات برر فيها قراره التنحي بالتزامه تجنيب الحزب أزمة جديدة، وقال في الرسالة إنه استشار عددا كبيرا من الإطارات في الحزب ووزراء ومناضلين وعلى ضوء ما دار من حديث معهم قرر التنحي من منصبه. وبين أسطر الرسالة، تظهر في العمق “حيرة” مازالت تتملّك رئيس مجلس الأمة حول الدواعي الحقيقية التي دفعت بإطارات من حزبه إلى الانقلاب عليه ودفعه إلى الاستقالة. وفي بطن الرسالة أيضا إشارة إلى أنه بحث عن هذه الدواعي ولم يجدها، لكنه تأكد له أن الإيعاز كان أقوى من مجرد دعوة للتنحي، ورغم ذلك منح لنفسه وقتا كافيا للتأكد أن الإشارة ثبت هلالها، وأنه لم يعد رجل المرحلة داخل ثاني أكبر حزب، رغم حظوته بصفة “ثاني رجل في الدولة”، لكنه قد يكون رجل المرحلة بعد هذه المرحلة. عندما كان بن صالح يحضّر لإبلاغ مناضليه بالقرار، كان مؤتمر الأفالان بالقاعة البيضاوية يزكي الرئيس بوتفليقة رئيسا شرفيا للحزب، بينما سعداني كان يتحضر لسماع أصوات تزكيته لعهدة رئاسية أخرى بالحزب العتيد، والربط بين ما كان يجري بالأرندي والحاصل في التوقيت نفسه بالأفالان، يحيل إلى ترتيب ما خارج ما يروج على كل لسان من أن بن صالح يتحضر بدوره إلى منصب أرقى بإضافة “درجة” لترتيبه الحالي داخل الدولة. لكن بالعودة إلى الرسالة فإن كلماتها وعباراتها وجملها وفقراتها لم تبدِ أن رئيس مجلس الأمة واثق من ذلك، فالرجل بدا وكأنه أضاع شيئا ما من بين يديه، والدليل أنه لم يعلن استقالته، كما قال، حتى استشار وزراء وبرلمانيين وحتى مناضلين عاديين، ما يعني أنه كان يسعى للتشبث بآخر قشة قد تبقيه بمنصبه. طبعا سعيه هذا توقف بمجرد أن التقى مسؤوله “السابق” و«اللاحق” في الأرندي، أحمد أويحيى، في الأيام الماضية، ليخبره أن دعوته للتنحي ليست مجرد كابوس بليل.. فكلام أويحيى كان الإشارة التي انتظرها بن صالح وهو حائر من أمره. قال بن صالح: “فكرت كثيرا، وأعدت التفكير في الموضوع الواحد، بحثا عن الحجة التي تساعدني على الفهم وتحديد الموقف واتخاذ القرار”، وتابع “استعرضت مسلسل التطورات التي عرفها الحزب خلال السنتين التي قضيتهما على رأس الأرندي.. التطورات والنشاطات كلها تذكرتها لكي أجد المبررات الكافية لحقيقة ما جرى. لكني في كل مرة وجدت أن الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي كانت تبقى في معظمها دون جواب مقنع.. ناقشت ذلك مع نفسي وبحثت عن أسباب وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، وحوصلت في النهاية مضمون أحاديثي مع من التقيت بهم داخل الحزب وخارجه، وأوصلتني تحاليلي إلى خلاصة واحدة لا ثاني لها (الاستقالة)..”. وتابع بن صالح: “خلاصة تدعوني بإلحاح إلى ضرورة تحمّل مسؤولياتي كاملة كمناضل وكمسؤول، حفاظا على وحدة الحزب واستمرار استقراره وأيضا وجوده الفاعل في الساحة.. لهذا ورغبة تجنيبه الدخول في أوضاع غير مريحة، لا يتمناها أحد، فما بالك أن أكون ذلك المتسبب فيها، اتخذت قراري السيد..”. وبعد عرض مستفيض لوقوف الحزب إلى جانب برنامج الرئيس بوتفليقة، قال رئيس مجلس الأمة: “ارتأيت بكامل روح المسؤولية التنحي عن منصبي كأمين عام للتجمع الوطني الديمقراطي، تاركا لكم حرية اختيار من ترونه مناسبا من إطاراتنا لتولي المسؤولية”. وختم بن صالح رسالته بملاحظة تفيد: “يسري مفعول الاستقالة اعتبارا من تاريخ 5 جوان 2015”. ويشبه مضمون الرسالة إلى حد بعيد مضمون رسالة أحمد أويحيى التي خطها تحت ضغط دعوات الرحيل من الحزب، يوم 15 جانفي 2013، من خلال عبارات “الحفاظ على تماسك الحزب” وغيرها. وينتظر أن يعود أحمد أويحيى لمنصبه الذي تركه قبل عامين من بوابة المجلس الوطني، المرتب لعقده يوم 10 جوان ولو بتزكية “قبلية”. ويعتبر الأرندي حزب السلطة الوحيد في الجزائر الذي تنتقل فيه القيادة انتقالا “سلسا”، بينما تزداد الأزمة داخل الأفالان تعقيدا، وهو أكثر الأحزاب استقطابا لأزمة “الشرعية” منذ سنوات. ورغم ذلك، وعلى خلفية “التزكية” التي حظي بها أمس مؤتمر عمار سعداني، من خلال رسالة الرئيس بوتفليقة للمؤتمرين، تتفاعل التطورات السياسية بشكل يقرب للفهم أن الترتيب المرحلي للسلطة سوف لن يستثني إعادة بعث تحالف رئاسي من جديد، من أجل تسييج “السلطة” بحماية أكثر أمام دعوات المعارضة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، وأيضا أمام ما تعيشه البلاد اقتصاديا وماليا، عبّر عنه الوزير الأول عبد المالك سلال بكثير من “الرعب”، بقوله إن احتياطيات البلاد المالية سوف لن تتجاوز 9 مليارات دولار عام 2019.