مهما بلغت الإنسانية من تطوّر ورقيّ حضاري تبقى بها رواسب من جاهلية، وشوائب من رجعية، وبقايا من تخلّف!، ولا أدلّ على ذلك من بقاء النّعرات العِرقية توغر الصّدر وتثير كمائن القلوب، وتجيّش الجيوش وتشعل الحروب وتقسّم الدول، وتهلك الحرث والنّسل، ويصطلي بنارها العباد والبلاد! العجيب أن يحدث ذلك في هذا الزّمان الّذي أثبت العلم بالدّليل القطعيّ أنّه لا يوجد شعب نقي عرقيّا مئة في المئة، بسبب الهجرات التاريخية للكتل البشرية، وبسبب التّزاوج والتّصاهر بين الإثنيات المتعايشة، وبسبب الاستعمار، وبسبب تداول الإمبراطوريات على أصقاع العالم، وبأسباب أخرى كثيرة. حتّى أنّ العرق الجرماني الآري الذي ادّعى هتلر صفاءه ونقاءه، وبنى على ذلك تطرّفه النازي، تبيّن أنّه من أهجن الأعراق والأجناس! ومثله دعوى السّامية الّتي بنى عليها الصّهاينة - والصّهيونية أخت النازية الشّقيقة الشّقية!- تطرّفهم، تبيّن أنّها أكذوبة، إذ أغلب يهود العالم الآن ليسوا من أصل سام، بل هُم السبط الثالث عشر كما سمّاهم آرثر كيستلر، وأصلهم من الخزر وهم أبعد ما يكونون عن العبرانيين!. ومع هذا ما زال مَن ينطلق من العرق وإليه يعود، ويغرق في حمأة الطّين!. نعم دعاوى العرقية دعاوى جاهلة جاهلية، يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: “كان إعجاب كلّ قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشيًا في الجاهلية، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل باهلة، وضبيعة وبني عكل. سُئل أعرابيٌّ: أتحبّ أن تدخل الجنّة وأنت باهلي؟، فأطرق حينًا، ثمّ قال: على شرط أن لا يعلم أهل الجنّة أنّي باهليٌّ!، فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتّقاتل، وتتفرّع عليه السخرية واللّمزّ، والنّبز والظّنّ والتّجسّس والاغتياب..، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النّفوس”. وجاء الإسلام واضحًا حاسمًا صارمًا في هذه القضية، حيث يقول الحقّ سبحانه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، فالنّاس جميعهم أصلهم واحد، أب واحد وأمُ واحدة، وتوزّعهم إلى شعوب وقبائل أمر طارئ لا يغيّر من حقيقة الإنسان، ولا يوجد فروق حقيقية بين بني آدم، فمهما اختلفوا في الملامح واللّغات إلى شعوب وعرقيات، فإنهّم إخوة في الإنسانية أقرباء أنسباء! وإنّما توزّعوا إلى ذلك حتّى يسهل تعارفهم، ويسهل تماسكهم وترابطهم، لأنّهم في هذا محيط الشّعب أو القبيلة الضّيّق نسبيًّا هم أقدر على أن يتعارفوا، ويتآخوا، الأمر الّذي لا يقع -إن وقع- إلاًّ ضئيلاً باهتًا، لا يكاد يتمّ، لو أنّ الإنسان كان فردًا في مجتمع إنساني كلّي وشامل.. ويبقى بعد ذلك ميزان واحد للتّفاضل، هو تقوى الله سبحانه. وهكذا يحسم الإسلام قضية خطيرة ما زال دهاقنة السياسة العالمية يستعملونها بخبث لاستعباد الشّعوب واستذلالها واستغلالها: ربّ واحد وأب واحد!. يقول سيد قطب رحمه الله: “وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان. وهكذا تتوارى جميع أسباب النّزاع والخصومات في الأرض وترخص جميع القيم الّتي يتكالب عليها النّاس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتّعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التّقوى في ظلّ الله. وهذا هو اللّواء الّذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلّها من الجاهلية وإليها، تتزّين بشتى الأزياء، وتسمّى بشتى الأسماء. وكلّها جاهلية عارية من الإسلام! وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كلّ صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنسانيّ العالمي في ظلّ راية واحدة: راية الله..”. وصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو الصّادق المصدوق: “إنَّ اللهَ عزّ وجلّ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلِيَّةِ وفخرَها بالآباءِ، مؤمنٌ تَقِيٌّ وفاجرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ وآدمُ من تُرابٍ”. إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة