لقد أسبغ الله علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهي كثيرة غفيرة حتى أرهقت العقول الرجيحة أن تحيطها حصرًا وعدا، وأعجزت الألسن الفصيحة أن تبلغها شكرًا وحمدًا، غير أن أتم نعمة وأكملها، هي نعمة إنزال القرآن، قال الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِن فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} العنكبوت:51. فتنزيل القرآن كافٍ، وتلاوته شافٍ، يمنع القلب أن يهيم بغيره، ويحجرَ العقل أن يتبع سواه، ويحسر النظر أن يتصفح كُتبًا سبقت وأسفارًا تخلفت: لا تذكر الكتب السوالف بعده طلع النهار فأطفأ القنديلاَ هذا وقد يصرف النص إلى المشركين الذين طلبوا برهانًا على صدق الرسالة، فجاءهم البيان بأن القرآن سيد الحجج والبراهين، أو يقصد به أيضًا أهل الإيمان الذين التفتوا إلى كتب درست، من توراة وإنجيل! وفي القرآن غُنية وكفاية، وما أروع فقه الإمام البخاري وأبدع تأويله حين قال في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ”ليس منا مَن لم يَتغن بالقرآن”، قال: ”أي يستغني به عن غيره”. فالهداية فيه لا في غيره، والنجاة والخلاص به لا فيما سواه، ولأمر ما كان من الواجب على المؤمن أن يحمد الله على إنزال القرآن {الْحَمْدُ لِلهِ الذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لهُ عِوَجًا} الكهف:1، كما يحمده ويثني عليه على خلق الأكوان {الْحَمْدُ لِلهِ الذِي خَلَقَ السمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظلُمَاتِ وَالنورَ} الأنعام:1. وكما أمرنا أن ننزه المولى سبحانه ونعظمه على ملكه {تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} الملك:1، أمرنا أيضًا بتنزيهه وتعظيم شأنه وتقديس ذاته على إنزال القرآن {تَبَارَكَ الذِي نَزلَ الْفُرْقَانَ} الفرقان:1، فما الكون بلا قرآن إلا كجسدٍ فارقته روحه، وما الملك بلا قرآن إلا كقنديلٍ غادره نوره..!