تتعرض الثروة السمكية بالسواحل الوطنية إلى انتهاكات خطيرة رصدت قبيل انطلاق موسم الصيف ولا تزال تتكرس تحت جنح الظلام، وأضحت تهدد ما تبقى من الأنواع المتكاثرة بالمياه الإقليمية خلال هذه الفترة البيولوجية الحساسة . وتأتي قضية الصيد العشوائي للسردين وباقي الأصناف "الزرقاء" في مقدمة الممارسات المنافية للأخلاق والقانون، حيث تؤكد أنشطة التسويق والترويج لكميات ضخمة من السردين غير المطابق للحجم التجاري في ظل غياب تام لسلطة الدولة في فرض الرقابة على الإنتاج السمكي على مستوى 32 ميناء وملجأ صيد.
أثارت قضية تسويق أطنان من سمك السردين الصغير بمبالغ تتراوح ما بين 205 و 300 دج طيلة شهري جوان وجويلية، موجة استنكار لمهنيين وجمعيات وطنية مهتمة بقطاع الصيد البحري وأيضا جمعية حماية المستهلك، حيث تجددت الانتقادات لجميع السلطات المكلفة بتسيير سلسلة الإنتاج والبيع، وأصبح تقصيرها مفضوحا لدى مكونات المجتمع، فلم تعد أسواق الجملة والتجزئة وحتى ألأسواق الشعبية بالجزائر العصمة وتيبازة وبومرداس وجيجلعنابة ووهران، تخلو من صناديق السردين الصغير البعيد عن التصنيف القانوني للحجم التجاري المسموح باصطياده.
وانتقد حسين بلوط، رئيس اللجنة الوطنية للصيد البحري، مؤخرا عمليات البيع الواسعة للسردين دون التقيد بالحجم التجاري، مشيرا إلى تورط صيادين كبار في عمليات استخراج أطنان من السردين الذي لا يتعدى طوله 4 سنتمترات فقط، وأوضح بلوط بأن الصيد العشوائي راجع إلى تقصير جميع المتدخلين في المنشآت الميدانية وإلى غياب الضمير لدى رؤساء البواخر وسعيهم إلى تدارك فترة الاضطرابات والأزمة المالية التي طالتهم طيلة فصل الشتاء وبداية فصل الربيع الماضي وهي الفترة التي سجلت معدلات إنتاج متدنية جدا، مما يدفع بالصيادين الكبار إلى استغلال فترات الليل وجمع كميات من السردين دون التقيد بالقوانين ولا حتى بالأخلاق.
واتصلت "الخبر" بالمختص في قطاع الصيد وتربية المائيات السيد إلياس مومن، فشد انتباهنا إلى وجود تسيب خطير متزايد في قطاع الإنتاج البحري، فلا تكاد تخلو المنطقة الممتدة ما بين ميناء تنس مرورا بخمسة موانئ بتيبازة وهي بوهارون خميستي تيبازة قوراية وشرشال كذا وموانئ الجزائر العاصمة وبومرداس وصولا إلى جيجلوعنابة، من الاستنزاف الممنهج للسمك المهاجر والقار والمتنقل عبر المياه الساحلية، حيث يؤكد ذات المختص، بأن أسطول الصيد البحري الوطني أضحى مشبعا منذ 15 سنة بسبب سياسة القروض وبرامج "أنساج" وبعض أجهزة التمويل البنكي، وهذا ما أحدث زحمة في الموانئ وقلص هوامش الربح بين المتعاملين وتسبب في تسابق خطير بينهم في استنزاف الأسماك وانتهاك فترات الراحة البيولوجية واقتحام مناطق الصيد المحظورة والتعدي على الحجم التجاري المسموح به .
وأرجع مصدرنا هذه الخروقات لعوامل متعددة، أبرزها غياب الردع الميداني الذي لا يقتصر على مصالح حرس السواحل فقط، لأن موانئ الصيد تتحكم فيها عدة مصالح رئيسة، منها النقل، الأشغال العمومية، الصيد البحري، شرطة الحدود، مؤسسة تسيير الموانئ وملاجئ الصيد، الصحة والتجارة والقوات البحرية، مما جعل المنشآت المينائية بحاجة لعمل لجان مشتركة تضبط جميع العمليات الإنتاجية والتجارية وفقا لنطاق اختصاص كل جهة.
الحلول ممكنة شريطة التحرك الجماعي
ومن أجل القضاء على عملية الترويج غير المشروع للسمك الصغير الحجم تقترح جهات مختصة، توفير التغطية الأمنية على مدار الساعة من أجل تسهيل تواجد مصالح الرقابة، خصوصا المدنية، لتنظيم الحركة والتسويق والبيع، مع تفعيل دور لجان التفتيش التابعين لمديريات الصيد البحري وبعث نشاط البياطرة مع منحهم وسائل التدخل لمراقبة الجودة والحجم التجاري والقانوني.
وتسمح هذه الإجراءات إن طبقت على أرصفة الموانئ، بحصر الكمية وقياسها عند بداية السلسلة التجارية، وهكذا يصبح المهنيون والتجار ملزمون بالحصول على تأشيرة هذه المصالح قبل نقل أي منتوج خارج الميناء وهذا ما يعطي نتائج إيجابية منها الحفاظ على الثروة السمكية من جهة، والقضاء على المضاربة وعلى "المافيا" التي تحكمت في الأسعار من جهة أخرى، حيث يتوجب منع أي وسيط من النشاط قبل حصوله على الاعتماد من طرف غرفة الصيد البحري ومصالح السجل التجاري.
تجدر الإشارة إلى استفحال جريمة استعمال الديناميت في عمليات الصيد، فالعارفون بخبايا الصيد، أكدوا ل" الخبر" بأن البحارة الذين يرصدون كُتل السردين في الأعماق لا يتورعون في ضربها بقوارير الديناميت لكي تصعد إلى السطح ليتمكنوا من محاصرتها بشباكهم ورفعها بسهولة، وفي هذه الحالة لن يكون بمقدورهم توقع الحجم التجاري، بل ما يهم هؤلاء سوى الكتلة والكمية والأرباح وبهذه الطريقة أضحى مستقبل هذه الثروة مهددا بشكل مباشر.
وللصيادين منطقهم
الصيادون قالوا ل "الخبر" إن الأزمة والمتاعب هي التي تدفعهم لاصطياد السمك الصغير لأن نشاط الإبحار لساعات طويلة في أعالي البحار يدفعهم للتغاضي عن تطبيق القوانين، خصوصا في فترات الندرة والاضطرابات الجوية والبحرية، حيث أكد قدماء جمعية الصيادين لبوهارون أن رؤساء القوارب لا يمكنهم التنبؤ بحجم السردين حينما يكون عالقا في الشباك ويمكنهم التأكد من حجمه التجاري إلا عندما يتم وضعه على أسطح القوارب، فالمشاق والمجهودات المتبوعة النفقات الكبيرة المترتبة عن عمليات الصيد، تجعلهم يفضلون تسويقه بطرق ملتوية ومخالفة للقوانين، تحت غطاء تخفيف الأعباء وتعويض الخسائر المتراكمة عليهم، خصوصا ما تعلق بمستحقات البحارة وتأميناتهم وحقوق الضريبة ونفقات الصيانة وغلاء العتاد، والسبب في ذلك هو تأخر الحكومة في اعتماد توصيات رفعت منذ عقود، تنادي بضرورة إنشاء صناديق خاصة تتولى عملية تعويض الصيادين الذين يمتنعون عن تسويق الأسماك التي لا تتوفر على الحجم التجاري ومختلف الأنشطة الأخرى.
جمعية حماية المستهلك تحذر من الظاهرة
وفي حديثه مع "الخبر" حول هذه الظاهرة قال رئيس جمعية حماية وترقية المستهلك وبيئته السيد حمزة بلعباس أن تسويق السمك الصغير ممارسات نراها في موانئنا منذ فترة مفيدا أن جمعيته تلقت عديد الشكاوى في هذا الشأن وعبر مختلف الولايات الساحلية .
وصرح بأن الجمعية نادت بضرورة توفر الموانئ على أطباء بياطرة يراقبون هذه التجاوزات، مع تمكينهم من فرض القوانين وفقا لصلاحياتهم منها عدم السماح للصيادين المخالفين من إنزال سلعهم لبيعها وكذا طريقة الصيد، حيث يمكن لهؤلاء البياطرة التعرف على طرق الصيد المعتمدة وبإمكانهم حصر القوارب التي تستعمل الطرق الممنوعة كالديناميت وغيرها.
وإن كان هذا السردين صالحا للاستهلاك، فإن محدثنا يراها جريمة ستقضي على تكاثر الثروة وبقائها للأجيال القادمة، وهذا راجع إلى الفوضى الكبيرة التي يشهدها هذا القطاع، مع عدم وجود من يراقب ويردع هؤلاء الصيادين غير المهنيين وغير المتقيدين بأخلاق وقواعد الإنتاج المتسم بعدم الشفافية بدءا من الصيد وطرقه مرورا بالتسويق ووصولا إلى المستهلك والذي يتحمل نصيبه من المسؤولية، بسبب الإقبال على السمك الذي لم يصل الحجم القانوني نظرا للأسعار المعقولة مقارنه مع سعره الحقيقي حينما يبلغ الطول الطبيعي.
وأوضح حمزة بلعباس في ذات السياق، أن للمستهلك دور كبير القضاء على هذه الجريمة الايكولوجية بمقاطعة الأسماك الصغيرة والقيام بتوعية الباعة على عدم عرض مثل هذه الأسماك للبيع ...مع العلم أن الظاهرة طالت حتى الأسماك البيضاء والجمبري.
كما نقترح القيام بتكوين للصيادين وتوعيتهم علميا وأكاديميا وتحسيسهم بخطورة ممارساتهم في تقليص الثروة و القضاء عليها في المستقبل القريب.