رغم أنّ الإعلام العالمي عامة، والغربي خاصة، والعربيّ المتصهين أخصّ، استطاع احتلال واستعمار عقول ونفوس وقلوب كثير من بني جلدتنا، وأقنعهم أنّ قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين، [وهم ممثلون في سلطة أوسلو العميلة المعمول بها الّتي لا تعمل شيئًا سوى التّنسيق الأمني، والّتي لا تمثّل إلّا نفسها أو بتعبير صحيح إلّا من أنشأها]، وقد تصالحوا مع الصّهاينة، وهم يستقبلونهم بالأحضان والقبل الطويلة! وأقنعوهم بأنّ الكيان الصهيوني قد صار حقيقة واقعية لا فائدة من عدم الاعتراف بها، وهي مدعومة من الغرب عامة ومن أمريكا وروسيا وأوربا بالخصوص، وما أدراك ما هؤلاء؟؟ لم يبق لنا خيار إلّا الانبطاح والتّطبيع والاستسلام للأمر الواقع، والرّضى بأيّ فتات تجود به طاولات المفاوضات الدّنسة، نقيم عليه شبه دولة!. ونعيش كما يعيش باقي النّاس! هذا منطق الخيانة وسبيل (الحَرْكَى) الّذي وضعوا له مصطلح مهذّب جميل: الاعتدال، ودول الاعتدال! والخيانة رجس ونجس لا يغسله ماء البحر، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «يطبع المؤمن على الخلال كلّها إلّا الخيانة والكذب» رواه أحمد. وقال: «اللّهم إنّي أعوذ بك من الخيانة فإنّها بئست البطانة» رواه أبو داود وغيره. ولا يختلف عاقلان في أنّ مَن يخون وطنه وأهله، ويخضع لعدوّه من أجل حياة رخيصة، ومصالح شخصية، أو خوفًا من الموت في ميدان الشّرف كالرّجال لا يستحق الاحترام عند الخلق وهو ملعون عند الخالق! فكيف إذا كان الإنسان يخون أرضًا باركها الله عزّ وجلّ؟! وجعل حكمه الجليل بمباركتها قرآنًا يُتلى إلى يوم الدِّين؟!. فقد جاء حكم الله عزّ شأنه بمباركة فلسطين صراحة في خمس مواضع من القرآن العظيم، وأشهر هذه الآيات، وأحسب أنّ أكثر المسلمين يحفظونها، فهي حُجّة عامّة تامّة، هي قوله جلّ شأنه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ..} وهي آية صريحة في كون فلسطين (وهي البلاد الّتي حول المسجد الأقصى) مباركة بارَكها الله ومجّدها وقدّسها. ومن المهم ذكره هنا أنّ هذه الآية نزلت في مكّة بُعيد حادثة الإسراء والمعراج وفي هذا دلالات كثيرة كبيرة، فقد نزلت والمسلمون مضطهدون، حتّى لا يقول لنا قائل: المسلمون مضطهدون في كثير من الدول، ويعيشون أوضاعًا مزرية في كثير من بلدانهم فكيف تحدّثونا عن القدس؟! ونزلت هذه الآية قبل تكتمل الأحكام التّشريعية، بل الزّكاة والصّوم والحجّ لم يكونوا قد فرضوا بعد، فقد فرضوا في المدينة كما هو معلوم، حتّى لا يقول لنا قائل سخيف: النّاس لا تعرف كيف تتوضّأ، ولا كيف تصوم، ولا كيف تزكّي، ولا تصلّي الصّبح في المسجد، وأنتم تحدّثونا عن القدس؟! ونزلت هذه الآية والقدس مستعمرة من طرف الرومان، إشارة إلى وجوب فتحه وتحريره من يدهم، رغم أنّ المسلمين آنذاك كانوا في وضع لا يسمح لهم بمجرّد ردّ عدوان قريش، فكيف بمحاربة الرومان وتحرير القدس؟! فتأمّلوا واعتبروا... والثانية قوله جلّ جلاله: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} الأعراف:137، قال الأستاذ الإمام الطاهر ابن عاشور رحمه الله: ”والمراد هنا تمليك بني إسرائيل جميع الأرض المقدّسة بعد أهلها من الأمم الّتي كانت تملكها من الكنعانيين وغيرهم”. والثالثة قوله جلّت قدرته في إبراهيم عليه السّلام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء:71، قال الإمام ابن عطيّة الأندلسيّ رحمه الله: ”وقال الجمهور: هي أرض الشام، وهي الأرض الّتي بارك فيها، أمّا من جهة الآخرة فبالنّبوءة، وأمّا من جهة الدّنيا فهي أطيب بلاد الله أرضًا، وأعذبها ماء، وأكثرها ثمرة ونعمة”. وقال الإمام الزمخشري رحمه الله: ”وبركاته الواصلة إلى العالمين: أنّ أكثر الأنبياء عليهم السّلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدّينية وهي البركات الحقيقية. وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشّجر والثّمر والخصب وطيب عيش الغنىّ والفقير”. ونفس هذا الكلام يقال على قوله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} الأنبياء:81، وقوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} سبأ:18. كما يُضاف إلى هذه الآيات قوله سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السّلام يُخاطب بني إسرائيل: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُوا عَلَى أَدْبَاركُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} المائدة:21؛ لأنّ تقديسها مباركتها، قال الأستاذ الإمام ابن عاشور رحمه الله: ”والأرض المقدّسة بمعنى المطهّرة المباركة، أي الّتي بارك الله فيها.. وهي هنا أرض كنعان.. وهذه الأرض هي أرض فلسطين”. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يونس:93، قال الشّيخ الطّاهر ابن عاشور رحمه الله: ”والمراد بمبوأ الصّدق ما فتح الله عليهم من بلاد فلسطين، وما فيها من خصب وثراء”. وذكر الإمام ابن كثير رحمه الله عن ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ {مُبَوَّأَ صِدْقٍ}: هو الأردنوفلسطين. وعن الضحاك وابن زيد وقتادة، قالوا: الشام وبيت المقدس. وعن مقاتل قال: بيت المقدس. إلى غير ذلك ممّا ورد من إشارة إلى الأحداث الّتي جرت على أرض فلسطين المباركة، وما ذكره السّادة العلماء في تفاسيرهم، فما حكم مَن يَخون هذه الأرض المباركة؟، ويساوم بها ويفرّط فيها؟. *إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة