يتعرض جزائريون من مختلف الأعمار إلى مختلف أنواع الإهانة وقلة الاحترام أمام القنصليات الأجنبية في الجزائر، خصوصا الأوروبية، في ظل صمت مؤسسات الدولة، أولها وزارة الخارجية، وعدم تحركها للضغط على التمثيليات الدبلوماسية المعتمدة من أجل توفير ظروف استقبال تصون كرامة المواطنين. طوابير طويلة تحت أشعة شمس حارقة في صيف ساخن، أو تحت درجة برودة في شتاء قارس.. هي حالة مزرية و"بشعة" يتكبدها آلاف المواطنين يوميا أمام مقرات القنصليات الأوروبية، ناهيك عن المعاملة السيئة على يد أعوان أمن غير مكونين ولا يحسنون الكلام إلا بعنف، في ظل غياب قاعات استقبال أو انتظار مهيأة. توقفت "الخبر" عند مقرات قنصليات فرنسا وإسبانيا وكندا، فلم نجد سوى صورة قاتمة لمواطنين "يتبهدلون" أمام مرأى ومسمع كل مسؤولي الدولة الصغار قبل الكبار.
وزراء شاهدون على الإهانة.. لكنهم لا يتحركون!
طريق قادوش عبد القادر في حيدرة بأعالي العاصمة، حيث تقع قنصلية فرنسا، هو معبر كل أعضاء الحكومة وعلى رأسهم الوزير الأول عند الالتحاق بمكاتبهم كل صباح، وبكل تأكيد يقفون على طوابير طولية وعريضة لمواطنين يتمتعون بكل حقوقهم الدستورية من أجل دفع ملف الاستفادة من تأشيرة فيزا في إطار التجميع العائلي أو تصاريح العمل وغيرها من التأشيرات خارج السياحية التي تتكفل بها وكالة خاصة في إطار المناولة مع القنصلية الفرنسية على سبيل المثال. المشهد المزري نفسه المحط من كرامة الجزائريين يتكرر أمام القنصلية العامة الإسبانية في مقرها الجديد بشارع خليفة بوخالفة وسط العاصمة، حيث تكفي دقائق معدودات خصوصا هذه الأيام تحت حرارة مرتفعة جدا لكي ترى عجوزا أو شيخا يهوى أرضا أو مريضا بالضغط أو السكري حوله مواطنون يرشونه بالماء ليعود إلى وعيه، لأن هؤلاء المواطنين لم توفر لهم القنصلية صالة انتظار تحفظ لهم كرامتهم في أرضهم، وكل هذا يحدث على مرمى حجر من مقر الوزارة الأولى ومعها وزارة الداخلية.
هذه المشاهد التعيسة نسخ منها طبق الأصل أمام قنصلية كندا في الأبيار، ومعها كل دول أوروبا. فقبل أيام قليلة، نقلت "الخبر" أيضا من ولاية هران صورة أخرى من صور الإهانة التي يتعرض لها الجزائريون، حيث تفرض السلطات القنصلية الفرنسية في وهران على الحائزين على التأشيرة أن يتقدموا فور وصولهم إلى وكالة "تي.أس.أل" في مدينة وهران، ويودعوا نسخا عن وصل الركوب في الطائرة أو الباخرة التي عادوا على متنها إلى الجزائر من سفرهم إلى الخارج وكذا نسخة مصورة عن الصفحة الأولى لجواز السفر والصفحة التي تتضمن خواتم الخروج والدخول، وهو ما اعتبره المسافرون بمثابة "إهانة جديدة" بعد إهانة موعد إيداع طلب التأشيرة والاستجواب الذي يخضع له بعض المسافرين الذين يجب عليهم أن يجيبوا عن بعض الأسئلة التي تعني حياتهم الخاصة والمهنية وغيرها من الخصوصيات "التي لا تطلبها حتى مصالح الأمن الجزائرية من المجرمين الذين تلقي القبض عليهم"، كما قال أحد المواطنين.
مسافات طويلة لأجل وثيقة..
ويضيف آخرون أنهم يتكبدون مشقة التنقل من ولايات بعيدة نحو وهران التي تعاقدت فيها القنصلية الفرنسية مع وكالة عالمية خاصة، استأجرت مقرا في هذه المدينة "منا من يقضي ثلاثة أيام كاملة لمجرد إيداع طلب التأشيرة، بالنسبة للمقيمين في الجنوب". والمشكل، حسب هؤلاء المواطنين، أن "هذا القرار الجديد الذي اتخذته السلطات القنصلية الفرنسية في وهران سيادي، ولا أحد يمكنه أن يقدم احتجاجا لسفارة هذا البلد أو وزارة خارجيته". هذا الوضع السوداوي، قال عنه رئيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، نورالدين بن يسعد، ل"الخبر"، إن "الدولة الجزائرية بكل مؤسساتها مسؤولة عن حماية مواطنيها وصون كرامتهم التي لا تقبل المساومة أمام أي ظرف، فهنالك اتفاقيات أبرمتها الجزائر مع كل الدول من أجل فرض معاملة تحمي كرامة المواطنين، وهذا طبعا من دون التدخل في مسألة منح التأشيرات التي تبقى قضية سيادية ولكل دولة أن ترفض أو تقبل".
"ضعوا السفارات عند حدها"..
رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحقوق الإنسان، سابقا، فاروق قسنطيني، يرى في تصريح ل"الخبر"، أن "الإهانة التي يتعرض لها الجزائريون أمام القنصليات الأجنبية في الجزائر يتحمل مسؤوليتها الوزير الأول شخصيا ووزير الخارجية، من خلال إفهام السفراء المعتمدين بأن الشعب الجزائري محترم وكرامته فوق كل اعتبار، ولابد أن يحظى بالاحترام وحسن المعاملة، حتى ولو رفضت له "الفيزا"، وبالتالي السلطات العمومية في بلادنا لابد لها أن تضع السفارات أمام حدودها من أجل الحفاظ على كرامة الجزائريين". بدورها، ذكرت الناشطة الحقوقية والنائب في البرلمان، فطة سادات، في اتصال ب"الخبر"، أن "الأمر الملفت للانتباه هي الظاهرة المؤسفة المتعلقة بهروب الجزائريين من بلدهم، فالأرقام الخطيرة التي تثبت هذا الواقع، خصوصا وسط فئة الشباب، تظهر كل محاولات ومساعي هؤلاء نحو الهروب، ومن المفروض معالجتها بدقة، تحديدا أن هذه الظاهرة بدأت تمس طبقة المثقفين، ثم إن المعاملة السيئة التي يتعرض لها الجزائريون سببها أيضا ضعف مصداقية الدولة ومؤسساتها دوليا، ولا غرابة من هذه المعاملة من طرف القنصليات، في نظام جزائري يمنع حق التجمع والتظاهر ويدوس على كامل الحقوق". وإن كان منح التأشيرة مسألة سيادية لأي دولة، إلا أن رفض منح مواطنين من طبقة المثقفين وأصحاب الشأن وسط المجتمع أمر يستدعي التوقف عنده، خصوصا أن محامين وأطباء وصحفيين وكتابا وغيرهم تم رفض منحهم "فيزا شنغن"، من دون تقديم تبريرات مقنعة، كما لا يمكن أن يكون هذا الأمر "مقبولا" في ظل وجود اتفاقيات بين الجزائروفرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي حول تنقل الأشخاص وكل التفاصيل القانونية التي تتيح ممارسة هذا الحق بعيدا عن الضغوطات أو المساومات.
المعاناة والويل.. وتبرير بلا مبرر
وقبل منح التأشيرة من عدمها، ظل الجزائريون لسنوات طويلة يتكبدون المعاناة و"الويل" مع متعامل خاص تعاقدت معه القنصلية العامة الفرنسية لتسيير مواعيد الفيزا، إلى أن اكتشفت السفارة الفرنسية قبل غيرها فضيحة تورط بعض الموظفين التابعين لهذه الشركة، كانوا "يبزنسون" في ملفات التأشيرات ويقبضون أموالا ضخمة مقابل منح مواعيد في أقرب الآجال، فكانت النتيجة فسخ عقد هذا المتعامل ومنح تسييره لمتعامل خاص آخر، لكن مع ارتفاع تكاليف الحصول على موعد، غير القابلة للاسترجاع في حال رفض منح التأشيرة، وإدخال المتعامل الجديد إجراءات معقدة جدا باقتراح من السفارة الفرنسية. ومع استمرار الاحتجاج على الرفض "غير المبرر"، أصدرت السفارة الفرنسية في الجزائر أكثر من مرة بيانات توضيحية، كان آخرها بتاريخ 23 جويلية الماضي، حيث ذكرت فيه أن "معلومات مغلوطة تم نشرها بخصوص إجراءات أخذ موعد لطلب التأشيرة إلى فرنسا لدى مقدم الخدمات في "أف أس غلوبال" وأنه ليس هناك أي تجميد لطلب مواعيد بالنسبة للسنة القادمة"، مضيفا: "ما بين 1000 إلى 1500 فترة لتحديد المواعيد يتم فتحها يوميا من طرف القنصلية العامة لفرنسا، وفي ظرف شهرين تم اقتراح ما بين 60 ألف إلى 90 ألف موعد لطالبي التأشيرة". وأرجعت السفارة في بيانها صعوبة الحصول على موعد إلى "المستوى الكبير لطلب التأشيرة وتدخل وسطاء غير مرغوب فيهم، حيث يأخذون المواعيد المتوفرة ثم يقومون بالمتاجرة فيها".
اللجوء كما التأشيرة..
بالحديث عن التأشيرة يكون التطرق إلى طلبات اللجوء أمرا حتميا، فقد أبلغت باريسالجزائر، ضمنيا، بالتعاون معها لوقف طلبات لجوء الجزائريين إلى فرنسا، حيث نقل وزير الداخلية الفرنسي، جيرار كولومب، في زيارته الأخيرة للجزائر، لنظيره الجزائري نورالدين بدوي هذه "الرغبة"، عبر التساؤل أمامه عن الدواعي التي تدفع الجزائريين إلى اللجوء. وقد فتح كولومب مع الحكومة الجزائرية هذا الملف المعقد، الذي ظل لسنوات طويلة داخل الأدراج، خصوصا أن وزير الداخلية الفرنسي حمل معه أثناء تعيينه في هذا المنصب مشروع قانون حول اللجوء والهجرة، قدمه أمام مجلس وزراء بلاده في فيفري الماضي، الذي ضم تدابير صارمة وشروطا معقدة لقبول طلبات اللجوء. وحمل تساؤل كولومب أمام بدوي والولاة علامات استفهام كبرى عن المغزى منه، خاصة أنه جاء بصيغة التعجب من دون أن يسترسل في تفاصيل إضافية، في مقابل عدم تلقيه ردا من طرف وزير الداخلية نورالدين بدوي. وقال كولومب في تصريح صحفي إن "الجزائريين ينتمون إلى 10 جنسيات تقدمت بكثرة بطلبات اللجوء خلال عامي 2016 و2017، حسب إحصائيات كشفها المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية، حيث سجل المكتب 2500 طلب جزائري للحصول على اللجوء في فرنسا العام الماضي بزيادة قدرها 25 بالمائة عن سنة 2016".
لا حاجة للجوء.. التأشيرة موجودة
وأوضح كولومب أن "فرنسا تمنح تأشيرات كثيرة للجزائريين، فلماذا هنالك أشخاص يطلبون اللجوء؟". ثم أجاب: "لا توجد حاجة لتقديم طلب اللجوء في فرنسا، وهذه مواضيع علينا التعامل معها معا (الجزائروفرنسا)". وزاد عدد الجزائريين الذين يطلبون اللجوء إلى فرنسا ب2456 طلب جديد مع بداية سنة 2017، بارتفاع بنسبة 24 بالمائة مقارنة بالسنة الماضية. وعلى خلاف الهجرة، لم يأت الجزائريون في صدارة الشعوب التي تقصد فرنسا تحديدا بحثا عن اللجوء. وفي تقرير شامل حول طلبات اللجوء، ذكر المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية أن "الجزائريين يطلبون اللجوء لأسباب أمنية، وبرروا ذلك بتهديدات إرهابية تعجز السلطات الجزائرية عن وقفها، فيما يعتبر آخرون عودتهم إلى الجزائر خطرا على حياتهم بسبب ديون لهم عجزوا عن تسديدها، وحتى هنالك نساء رفضن العودة إلى الجزائر خوفا على أرواحهن نظرا لإقامتهن علاقات خارج أطر الزواج".