تعوّد المشاركون في مسيرات الجمعة في مدينة وهران، منذ يوم 1 مارس 2019، على مشهد ذلك الكهل الحامل لآلة تصوير وهو يتابع خطواتهم ويلتقط مشاهد لا يراها أحد إلا هو. فباستثناء معارفه الذين يستوقفونه ليلتقط لهم صورة، لا يسأله عامة المتظاهرين: ماذا يفعل؟ ولا أحد يمنعه من توجيه عدسه آلته نحوه. ومن حين إلى آخر يستوقفه أحدهم ليملي عليه عنوان صفحته على الفيسبوك ويطلب منه أن يرسل له الصورة التي التقطها له. يداوم الأستاذ الجامعي في الهندسة المعمارية منير سريان على مسيرات وهران منذ الجمعة الثانية 1 مارس. فقد خرج إلى الشارع مع الناس في الجمعة 22 فيفري دون آلة تصوير، لأنه كان مندمجا في المطالب الشعبية التي خرجت في الجمعة الأولى للتعبير عن رفض العهدة الخامسة، ومقتنعا أيضا مع بقية المطالب التي رفعتها المسيرات التي تلت ذلك اليوم التاريخي. كما لا يتخلّف عن المسيرات والمظاهرات التي تشهدها المدينة في بقية أيام الأسبوع، حسبما تسمح به ظروفه المهنية، ولا يتخلف إطلاقا عن مسيرات ولقاءات زملائه الأساتذة الجامعيين. ويملك هذا المهندس المعماري من دون شك أكبر مخزون لصور الحراك الشعبي في المدينة، يضاف إلى مخزونه القديم الذي يعود إلى سبعينات القرن الماضي عندما كان طالبا في الجامعة، والذي أثراه طيلة مساره المهني من مختلف مناطق الوطن والعالم التي تنقّل إليها. بدأت مغامرة الأستاذ منير سريان مع الصورة في الجامعة عندما كان يدرس الهندسة المعمارية في جامعة العلوم والتكنولوجيا بوهران، وكان ضمن الدفعة الثانية في هذا التخصص العلمي الذي انطلق تدريسه في هذه الجامعة التي أسسها ودشّنها الرئيس الراحل هواري بومدين سنة 1978، وترأسها المجاهد البروفيسور حسان لزرق، ولم تفارق آلة التصوير حقائب منير سريان منذ ذلك التاريخ إلى اليوم. ومعروف أن طلبة الهندسة المعمارية يحتاجون في مسارهم العلمي إلى الصورة، فلجأ إليها هو الآخر، لكنه لم يتخلّ عنها بعد أن تخرج بشهادة مهندس دولة، واستمر في استثمارها والاستعانة بخدماتها في بقية مساره في البحث الجامعي والتدريس، وصار بالإضافة إلى الدروس الأكاديمية التي يقدمها لطلبته في تخصصه يلقنهم أيضا تقنيات التصوير الفوتوغرافي. ويملك منير سريان شعبية كبيرة في وهران اكتشفها أصدقاؤه المقربون في مسيرات الجمعة، كونه أكثر من يستوقفه المشاركون في المسيرات في مجموعته المتكوّنة في الغالب من أساتذة جامعيين في مختلف التخصصات العلمية، وهم من طلبته القدامى والحاليين وكذلك الذين تعرفوا عليه في المناسبات العديدة في حياته المهنية ونشاطاته العلمية والفنية. ويحسّ هذا المداوم على مسيرات مدينته وهران بالندم الكبير لأنه لم يخلّد المسيرة الأولى للحراك يوم الجمعة 22 فيفري. ويقول ”في الجمعة الأولى لم أصطحب معي آلة التصوير لأنني كنت متخوفا من رد فعل المتظاهرين، وقلت في نفسي ربما سيرفضونني. لكنني تفاجأت بالناس تحتفل بطرد الخوف عن طريق تخليد مشاركتهم في تلك المسيرة التاريخية عن طريق التصوير بالهواتف النقالة، كما لاحظت أنهم استقبلوا بشكل طبيعي المصورين الصحفيين”، ويضيف ”في مساء اليوم الأول للحراك قررت ألا أخرج مرة أخرى للتعبير عن رأيي أنا أيضا إلا وفي حقيبتي آلتي لأضيف إلى رصيدي مشاهد للانتفاضة الشعبية، شعاراتها وشخوصها ومواقفها ونوادرها”. يملك منير سريان للباحثين الجامعيين رصيدا ثريا ومتنوعا من الصور، التي يمكن القول إنها اليوم نادرة. فقد صوّر المدن والبراري، الإنسان والنبات. صورٌ بدأ يلتقطها منذ كان طالبا للمدينة التي ولد فيها واشتغل على معمارها القديم، وختمها برسالة ماجيستر بعنوان ”جرد وقراءة للتراث المعماري لمدينة وهران”. ويمكن القول إنه من أوائل المختصين الجامعيين الجزائريين في هذا المجال. فقد ساهم في الحفاظ على هذا التراث مع زملائه المعماريين وعلماء الاجتماع الوهرانيين، وقدّم اقتراحات عملية للحفاظ عليه، منها ما تم أخذه بعين الاعتبار، واقتراحات أخرى تحتاج إلى إرادة سياسية لتجسيدها لكي لا يفقد أبناء المدينة معالمهم مع ”الترييف والتوسع الفوضوي” الذي تشهده في السنوات الأخيرة، و ”تكالب” المرقين العقاريين الذين يكادون يمحون كل الإرث التاريخي لهذه الحاضرة العريقة. ولقد ساعدت المعرفة الدقيقة بالمدينة وزواياها وأنوارها وظلالها منير سريان في تخليد خروج سكانها إلى الشوارع لقول كلمتهم في الحراك الشعبي، كونه اشتغل على أدق تفاصيلها المعمارية والعمرانية، كما أطّر عشرات الأعمال التي أنجزها طلبته حول مدينة وهران. ولا يجد صعوبة للتنقل من زاوية إلى أخرى في شوارعها ليستبق المسيرة قبل انطلاقها، ثم تحين أحسن الظروف من حيث الإنارة ليلتقط أجمل صور الحراك وتحركات المشاركين في المسيرات. وبفضل عدسة منير سريان تتوفر لكثير من الذين لا يحسنون ”السلفي” بالهواتف النقالة صور نادرة عن مشاركاتهم في مسيرات الجمعة في وهران، لكنه يفضّل تتبع خطوات مجموعة قليلة من أصدقائه، ومنهم الأستاذ الجامعي المتخصص في علم الاجتماع عبد الكريم العايدي الذي لم يفوت أي جمعة مع زميله الخبير الاقتصادي والأديب أحمد صايفي بن زيان اللذين اشتغل معهما في العديد من الأبحاث العلمية. كما اشتغل كثيرا مع البروفيسور المختص في الأنثروبولوجيا عبد الرحمن موساوي الذي يُدرس حاليا في جامعة ليل 2 الفرنسية، ولا يستطيع أن ينزل في وهران عند أهله دون أن يستدعي منير سريان من أجل تحديث معطياته ومعلوماته وما حدث في غيابه عن المدينة. ويستعين خبراء علم الاجتماع كثيرا بخبرة المهندس المعماري منير سريان، ليس فقط لمعرفته بالمدينة وتفاصيلها ولكن أيضا بحكم معرفته الدقيقة بالصحراء التي أنجز حولها بحثا علميا مع أحمد صايفي بن زيان، إضافة لمعرفته بمنطقة القبائل وهو المنحدر من عائلة تعود أصولها إلى منطقة البيّض. ويملك مخزونا نادرا من الصور للقصور التي اشتغل عليها وكذلك للنباتات الصحراوية، ولأنه أشرف أيضا على أبحاث عشرات الطلبة والباحثين حول التراث المعماري وعمارة منطقة القبائل. كما يعرف مناطق غليزان وتلمسان ومعسكر وخاصة النعامة والبيض وبشار. كما اختار الأستاذ الجامعي منير سريان الخدمة العمومية ولم يتنقّل كما فعل الكثير من زملائه المهندسين المعماريين إلى مجال الأعمال والاستثمار بإنشاء مكاتب دراسات أو شركات للترقية العقارية، مع أنه كان قادرا على ذلك، لكنه بقي في خدمة الجامعة والجامعيين. واختار مع حراك الشعب الجزائري السخاء بتخليد ما يفعله في شوارع مدينة وهران منذ الفاتح مارس الماضي وكل جمعة. وقد استجمع بهذه المناسبة كل ”أسلحته” المتمثلة في آلات التصوير التي يملكها ويحتفظ بها في منزله ليختار أيها أنفع هذه الأيام، ويضيف بها إلى مخزونه صورا سيحتاجها من دون شك زملاؤه الباحثون الجامعيون الذين خلد خطواتهم في الحراك، أمثال البروفيسور محمد مبتول، الفيلسوف محمد مولفي، اللغوي حاج ملياني وغيرهم، عندما يحين أوان دراسة الظاهرة الجزائرية الجديدة.