تهاوت معنويات العديد من الأطباء المرابطين في مصالح كوفيد 19، منذ شهور والمثقلين بألبسة الوقاية لساعات طويلة، على وقع مشاهد مواطنين مجتمعين حول وجبة عشاء جنائزي بولاية الشلف وحادثة شتم مغنية زملاءهم بمستشفى وهران، وقبلها اقتحام مجموعة شباب مستشفى بولاية ميلة احتجاج على وفاة قريبهم. آلمت تلك المشاهد أصحاب المآزر البيضاء واعتبروها تنكرا لكل تضحياتهم وتنازلاتهم التي يقدمونها يوميا في المستشفيات، وخلفت تلك الصور التي يظهر فيها مواطنين مجتمعين وغير مكترثين بأبسط قواعد الوقاية، ضررا معنويا عميقا لدى الأطباء الذين يطاردون شبح فيروس كورونا المستجد في غرف الإستشفاء والإنعاش. بات الجيش الأبيض يحارب على جبهتين في الأيام الأخيرة، جبهة في الشارع لا تؤمن بوجود الفيروس وحتى إذا آمنت لا تحترم شروط الوقاية، وتلهث وراء إقامة الأفراح والمناسبات. بينما الجبهة الداخلية تمثلت في محاولات تجاوز نقائص المنظومة الصحية وإدارة علاجات المصابين الذين تضاعف عددهم مرتين، إلى جانب البعد عن العائلة والخوف المزمن من العدو المجهري بما يقود الى متاعب نفسية لاحقاً. اكتسب قطاع الطبي وشبه الطبي خبرة في ادارة الأزمات الصحية بعد شهرين من التعاطي مع مخلفات ومتطلبات الجائحة العالمية "كوفيد19" واستطاع التكيف مع النقائص التي تشوب المنظومة الصحية على كل المستويات، وهي حالة مزمنة لازمت قطاع الصحة لسنوات طويلة، إذ عجزت الحكومات المتعاقبة على إصلاحها وهيكلتها، بما يجعلها تستوعب هكذا أزمات فجائية ووطنية. غير أن ما أحبط نفسيات الأطباء مؤخرا، ليس تشبع المستشفيات بفعل تزايد عدد الإصابات، وإنما حجم الاستخفاف والاستهتار الذي بلغ مداه مؤخرا، لدرجة أن الناس صاروا يقيمون ولائم جماعية وأعراس وجنائز، مخلفين حالة صدمة وإحباط في نفوس الأطباء والممرضين وأعوان الشرطة والدرك المرابطين في الصفوف الأولى أمام الهجوم الفيروسي الكاسح. ولم تمر هذه الوقائع مرور الكرام أمام القائمين على تسيير صفحة "أطباء" بوصفها أكبر تجمع افتراضي للأطباء، فأدرجوا عبارات تؤشر على امتعاضهم مما يجري " الأنبياء وما أدراك وتعرضوا للأذى والشتم وكيل الاتهامات، وأكثر من اعتدى عليهم هم أراذل القوم .. فلا تلتفتوا لهم وواصلوا عملكم". وتفاعل مع هذا المنشور قرابة 10 آلاف معجب و 800 معلق ونحو 500 مشترك قاسمها على صفحته الشخصية . كما أدرج مسيرو الصفحة صورة من ولاية قالمة، لمئات المواطنين مجتمعين في سوق للماشية دون التزام بأدنى معايير الوقاية، وصورة أخرى من ولاية بسكرة البؤرة الجديدة للوباء، وكذا دائرة شلغوم العيد بقسنطينة، تنقل مباراة كرة قدم جوارية في توقيت ما بعد الحجر الصحي، في غياب إجراءات أمنية ردعية. ومن أكثر الصور المحبطة، تلك التي بدا فيها مجموعة أشخاص مجتمعين على طاولة عشاء جنائزي، ويتناولون الأكل من أطباق مشتركة، فيما وضعت الكمامات جانبا او في الجيوب او اسفل الرقبة كما لو أنها أشياء ثانوية او شكليات تافهة. وكانت مجموعة من الشباب، قد اقتحموا مصلحة "كوفيد 19" بالطابق الخامس، اول أمس، بمستشفى الإخوة مداحي بفرجيوة، حيث قاموا بتكسير الأبواب وزجاج النوافذ والدخول عند المرضى دون الأخذ بأدنى إجراءات الأمن والوقاية احتجاجا منهم عن وفاة أحد أقاربهم. و قد قاموا بإخراج الجثة عنوة من المصلحة غير مكترثين بالإجراءات المعمول بها في مثل هذه الظروف، لتتدخل مصالح الأمن بعد ذلك و يتم القبض عليهم في المدخل الرئيسي للمستشفى. الحادثة أثارت استغراب و حيرة المواطنين و أهالي المرضى و الأطباء الذين عاشوا لحظات رعب حقيقية. وقبلها، شهدت بلدية سيدي عيسى بولاية المسيلة أحداث مأساوية، ممثلة في انتشار فيديو يظهر فيه شخص ممددا في غرفة مستشفى، كما لو أنه يعاني حالة إهمال محدثا زلزالا في منصات التواصل، قبل أن يصدر والي المسيلة، توضيحا للرأي العام، موضحا أن "الوقائع مفبركة"، كاشفا "أن محتوى الفيديو يعود إلى 5 أشخاص قامو باقتحام حرم المستشفى بتسلق حائط السياج حاملين معهم العصي، ليهددوا الطاقم الطبي والعمال ومنهم الطبيبة المناوبة".
الإحتراق الوظيفي
ولهذه السلوكات مخلفات سيكولوجية، حيث حذرت الأخصائية النفسانية العيادية من جامعة تيزي وزو، هابط ملعيد، في تصريح ل "الخبر"من تعرض الأطقم الطبية المرابطة في المستشفيات والعاكفة على إدارة العلاج لمصابي فيروس "كوفيد19" إلى متلازمة "الاحتراق الوظيفي" كأحد آثار الصور والمشاهد التي يظهر فيها مواطنين لا مبالين بوجود وباء كورونا المستجد او اعتداءات لفظية او جسدية على الأطباء. وتجعل هذه المتلازمة الأطقم المعالجة، بحسب الأخصائية، يعيشون حالة صراع نفسي بين الواجب المهني والأخلاقي وتكثيف المجهودات وبين الفشل واليأس من جدوى تضحياتهم، خصوصا أن أغلبهم يعملون بعيدا عن حاضنتهم الاجتماعية والمهنية الهادئة. فعندما يشاهد الأطباء المرابطون في الخطوط الأولى في معركة "كوفيد 19" مظاهر الاستخفاف، تقول الأخصائية، تتحرك فيهم أحاسيس الفشل واليأس وتتثبط إرادتهم الجمعية، التي تعتبر دافعهم الأساسي في خوض معركة جائحة "كوفيد19" . والإرهاق الجسدي و الجهود المضاعفة التي يبذلها الأطباء منذ نحو 5 أشهر، تواصل المتحدثة تحليلها العلمي، ربما كان سيكون أقل بكثير، لولا اللامبالاة التي يبديها المواطن والاستخفاف تجاه تضحيات الأطباء وخطورة الفيروس، والمحزن تطور الأمر إلى إيذائهم لفظيا وجسديا. وتعتبر متلازمة الاحتراق الوظيفي، بحسب الأخصائية، مشكلة شائعة لدى الأطقم المعالجة، خصوصا في الوضع الراهن، وتؤثر سلبيا على جودة الرعاية التي يقدمونها، ومنها ينخفض مستوى رضا المرضى عن الخدمات. وهذه المتلازمة، في نظر ملعيد، تتميز بإجهاد المشاعر العاطفية الوجدانية، لدرجة تتحول معاملة الأطباء للناس وللمرضى وذويهم، كما لو كانوا أشياء وليس أشخاص، إلى جانب الشعور المنخفض بمعاني وقيم وجدوى العمل الطبي والهدف الإنساني من وراءه، مشيرة الى أن الطبيب الجزائري اليوم يتلقى ضغطا من خلال ديناميكية فزيولوجية وسيكولوجية كبيرة ناتجة عن الأزمة الصحية. وتدفع هذه المتلازمة الأطباء أيضا إلى التهاون وإهمال الأهداف المرجوة والطبيب، مثلما تقول الدكتورة، لا يملك العصا السحرية التي تخرجنا من الأزمة، وليس المسؤول على عدد الوفيات التي تتفاقم، بل هو جندي مرابط على الواجهة الأمامية، فلابد العمل بتوصياته. محمد الفاتح عثماني