ورد في الصّحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألَا أخبركم بأكبر الكبائر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزّور، وكان مُتّكئًا فجلس فقال: «ألَا وقول الزّور»، فما زال يكرّرها حتّى قلنا ليته سكت. حذّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث من فعل شنيع، يقع فيه عمومًا ضعاف النّفوس، ألَا وهو شهادة الزّور، فجاء التّحذير منه غاية التّحذير قولًا وفعلًا، حيث كان صلّى الله عليه وسلّم يتحدث عن الشّرك والعقوق متّكئًا، فلمّا ذكر شهادة الزّور جلس ليُبيِّن فداحتها وخطرها، ثمّ راح يكرّر القول حتّى قال الصحب الكرام: ليته سكت شفقة منهم عليه. ولعظيم قبح وفداحة هذا الفعل صدَّر القول عنه بأداة التّنبيه (ألَا)، حين فصلها عمّا قبلها من الكبائر: «ألَا وقول الزّور»، وقوله: وجلس وكان مُتّكِئًا، قال الحافظ ابن حجر: «يشعر بأنّه اهتمّ بذلك حتّى جلس بعد أن كان متّكئًا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه، وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزّور أو شهادة الزّور، أسهل وقوعًا على النّاس والتّهاون بها أكثر، فإنّ الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرفه عنه الطبع، وأمّا الزّور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعًا، بل لكون مفسدة الزّور متعدية إلى غير الشّاهد، بخلاف الشّرك فإنّ مفسدته قاصرة غالبًا». إنّ من أعظم الذّنوب عند الله سبحانه بعد الإشراك به تعالى شهادة الزّور، ففيها مفسدة للدّين والدّنيا، وللفرد والمجتمع، وفيها الكذب والبهتان، وأكل لأموال الغير بالباطل، وسبب لانتهاك الأعراض، وإزهاق النّفوس، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «شهادة الزّور هي الشّهادة بالكذب ليتوصّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال». وقد جاء التّحذير الشّديد من شهادة الزّور، فقال تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور»، كما ورد المدح لمُجتنبيها: «وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا»، وشهادة الزّور قرينة الشّرك بالله، قال عبد الله بن مسعود: تُعدل شهادةُ الزّور بالشّرك وقرأ: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور». ومن الفتن الّتي أخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّها تقع في آخر الزّمان شهادة الزّور: «إنّ بين يدي السّاعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتّى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزّور وكتمان شهادة الحقّ وظهور القلم»، وفي الصّحيح: «خيرُكم قرني، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يجيء قوم ينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السّمن». ومن شهادة الزّور أن يشهد الإنسان بما لا يعلمه عِلمًا يقينًا مثل الشّمس، أو بما يعلم أنّ الواقع بخلافه، سواء شهد للشّخص أو عليه، وليست شهادة الزّور مقتصرة على الشّهادة بالكذب أمام القضاة في المحاكم الشّرعية، فإنّ شهادة الزّور صورها كثيرة، ويتساهل كثير من النّاس فيها، فمن ذلك: أن يشهد المدير لأحد موظفيه بأنّه من أحسن النّاس، وأنّه يؤدّي عمله بجدارة، لترقيته إلى مرتبة أعلى لا يستحقّها، أو أن يشهد موظف لآخر مهمل لوظيفته بمبرّرات لا أصل لها، فيشهد له بالمرض مثلًا والحال غير ذلك، يتوهّم الشّاهد بذلك أنّه يحسن صنعًا، ولم يدر أنّه بهذه الشّهادة أضرّ نفسه وأضرّ المشهود له، وأفسد على نفسه، وعلى المشهود له دينه. ومنها ما يحصُلُ عليه بعض النّاس من الشّهادات الدّراسية، كالماجستير والدكتوراه، يأخذونها زورًا وبهتانًا بغير حقّ، وبعضهم للأسف تكون شهادته في الشّريعة الإسلامية مع جهله بأبسط الأحكام الشّرعية، وقد ينال بهذه الشّهادة منصبًا، أو مركزًا اجتماعيًا، فيفتي النّاس بغير علم فيَضِلّ ويُضِلّ. ولشهادة الزّور مفاسد وآثار جسيمة، فمن ذلك أنّ صاحبها قد بنى حاله على الكذب والافتراء، وطمس الحقائق: «إنّما أنا بشرٌ وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذ، فإنّما أقطع له قطعة من النّار»، ومن آثارها وأضرارها أنّها سبب لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب، كما أنّها تعين الظُلّام على ظلمهم، وتعطي الحقوق لغير مستحقّيها، وفيها زعزعة للثّقة والأمانة بين النّاس. *إمام مسجد عمر بن الخطّاب بن غازي - براقي