تهدف الشريعة الإسلامية من وراء تشريع أحكامها الجنائية والمدنية إلى إقامة العدل ولذلك وضعت له من الطرق والوسائل ما يمكن للناس تحقيقه باعتباره أساس الملك الذي يجلب المصلحة للفرد والجماعة في العاجل والآجل ويحفظ حقوقهم من الضياع وحركت كل ما من شأنه تعكير صفو العدل أو نسف بنيانه أو تضييع الحقيقة المناط بها؛ ومن ذلك شهادة الزور التي تعد من اكبر الكبائر في منظومة الأخلاق الإسلامية وأكثر مقوض لبنيان عدالته ومسبب للفوضى بين أبناء مجتمعه وملبس للحق بالباطل. ولأن شهادة الزُّور شَّهادة بالكذب؛ تحول الباطل حقا والمنكر معروفا وتفضي إلى استحلال الدماء والأموال والأعراض بغير حق فقد جاء ذمها والنهي عنها صراحة في نصوص قرآنية ونبوية كثيرة وضعت جنبا إلى جنب مع الشرك بالله تعالى؛ فقال الله – تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج: 30]، وقد رُوِي عن خريم بن فاتك الأسدي: «إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاةَ الصُّبح، فلمَّا انصرف قام قائمًا، فقال: (عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّور بالإشْراكِ بالله) «ثلاث مرات»، ثم تلا هذه الآية: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) ورَوى أبو بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((ألاَ أنبئكم بأكبرِ الكبائر؟))، قلنا: بلى يا رسول الله، قال ثلاثًا: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس، فقال : ألاَ وقول الزَّور، وشَهَادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور))؛ فما زال يقولها حتَّى قلت: لا يسكت.»ورُوي عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنَّه قال: ((لن تزول قدما شاهد الزُّور حتَّى يجب الله له النَّار). وتبعا لذلك فقد لقيت شهادة الزور منذ القديم استهجانا واستنكار من قبل عامة الناس وخاصتهم وجرمتها جل الشرائع والأديان وأسقطت عن محترفها العدالة بين الناس وأفقدته الثقة بين صفوف أبناء مجتمعه؛ لأن جل الشرائع منذ القدم جعلت من الشهادة طريقا أساسيا من طرق إثبات الحقوق والجرائم والمخالفات فإن شهد شخص ما بحق زورا لشخص آخر ضاعت الحقوق واستبيحت الدماء وتقوض العدل، وما تزال القوانين الوضعية تنظر بذات المنظار لشهادة الزور رغم أن الكثير من الناس لا يتورع عن الإدلاء بهكذا شهادة متناسيا حتمية الرجوع إلى الله تعالى وغير مبال بضياع حقوق بني مجتمعه، سواء اقترف جرمه هذا بمقابل مادي زائل أو بدون مقابل سوى خساسة النفس وقلة المروءة والشهامة والإباء. ولنئن شدد الفقهاء المسلمون في شأن شهادة الزور ورتبوا على فاعلها عقوبات دنيوية تعزيرية من السجن والضرب والتشهير، وأوجبوا عليه التعويض المادي أو تحمل العقوبة ذاتها المقررة للمحكوم عليه بناء على هذه الشهادة فإن كانت قتلا قتل وإن كانت قطعا قطع فإن القرآن الكريم أورد بعض الصور لشهادة الزور ووصم صاحبها بالفسق؛ ومن ذلك القذف وهو اتهام الشخص بالزنا دون بينة فقال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))، ومنها الإفك وغير ذلك من الصور، فقد ألزم القرآن الناس بالشهادة الحق شهادة الصدق ولو على الأقارب، فقال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135)). وحرم كتمان الشهادة بعد تحملها إن أفضى كتمانها لضياع الحقوق فقال الله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)) البقرة. إن شهادة الزور كبيرة من الكبائر وصفة ذميمة لأصحاب النفوس الذميمة التي استبدت بها الماديات وركنت إلى الذل والهوان طمعا في مغان وشهوات آنية فحري بالمسلم تحاشيها سواء أمام القضاء أو في غيره من المجالس والإدارات العامة والخاصة لأنه مسؤول عما يتلفظ به من أقوال زائفة يوم القيامة كمل قال تعالى: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) )) (النور)، وعلى من اقترف هذه الفعلة أن يبادر إلى التوبة استجابة لقول الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا)) [آل عمران: 89] [النور: 5]، لأن قوله لا يقبل بعد شهادة الزور حتى يتوب ويظهر صلاحه.