يقول الإمام العلامة محمد البشير الإبراهيميُّ رحمه الله: “... أن القافلة الإنسانية مازالت منذ آدم تتخبّط في ظلمات من الجهل والشرّ والفوضى، تسير فلا تسير إلّا إلى الهلاك، وتقيم فلا تقيم إلّا على الضيم، وطالما ارتفعت أصوات الحقّ في أطرافها من المرسلين والحكماء، فضاعت تلك الأصوات بين غوغاء الباطل. أعضلت أمراضها، وعجز أطبّاؤها، واستفحل الشرّ بين أفرادها، وتخاذل العقل أمام الوهْم، وتهافتت الحقائق أمام الشبَه، وطغت الحيوانية بما فيها من تكالب ونَهَم وغرائز سافلة، فجاء العدوان والظلم والتناحر والقتال والمطامع. فكانت على كلّ ذلك في أشدّ الحاجة إلى هادٍ يهديها إلى سبيل الحقّ، وإلى حام يحميها من عدوان الباطل، وكان من قدر الله أن يكون ذلك الهادي محمدًا صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلام، وكانت ليلة الميلاد بذلك غرّة في الليالي الدُّهم”. هذا الوصف الذي يقدّمه الإمام الإبراهيميّ رحمه الله لحال البشرية قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته، ولمدى تعطّشها للهدى والحقّ يصدق - كما هو ظاهر- على الوضع التي تعيشه البشرية في وقتها الراهن، مع اختلاف المظاهر واختلاف المستوى التّقني. والحق أنّ ذكرى ميلاد الحبيب صلى الله عليه وسلم مليئةٌ بالحكم، مشحونة بالمعاني والأسرار، ومن المعاني الجليلة التي تغرسها هذه الذّكرى فينا، وتنبّهنا إليها، هذه القضية الخطيرة التي تكلّم عليها الإمام الإبراهيميّ، وهي الحضيض الذي وصلت إليه البشرية قبيل ميلاد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعثته، والذي وصفه النّبي صلى الله عليه وسلم بأبلغ وصف وأتمه، فقال: “.. وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربَهم وعجمَهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب” رواه مسلم. فقوله: “فمقتهم” المقت أشدّ البغض، أي: أبغضهم أشدّ البغض؛ لسوء اعتقادهم، وخبث صنيعهم. والمراد بهذا المقت والنّظر ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: “إلّا بقايا من أهل الكتاب” المراد بهم الباقون على التّمسّك بدينهم الحقّ من أتباع السيد المسيح عليه السلام، من غير تبديل ولا تحريف. وهذا الحكم عام في الناس جميعا، وفي الميادين والمجالات كلّها، ويفهم منه أنّ البشرية قد وصلت الحضيض قبل البعثة النبوية في عقائدها وأديانها، وفي سياستها واقتصادها، وفي اجتماعها وإنسانيتها، فاستحقّت وصف الجاهلية، التي هي الحضيض ذاته، وإلّا أيّ حضيض يمكن أن يهوي إليه العقل البشري بعد الجاهلية؟! وهو في جاهليته يرضى أن يكون الإله من حجر، ولا يرضى أن يكون الرّسول من بشر؟! {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. ثم إنّ القانون الرّباني الذي تسير عليه البشرية هي قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}، فمسيرة البشرية قديما وحديثا خاضعة لقانون التداول هذا، والذي يقضي فيما يقضي به: أنّ حال البشر -مسلِمهم وكافرهم- في صعود وهبوط، صعودٌ يبلغ القمة، ثمّ يتلوه هبوط يصل إلى الحضيض؛ ليعقبه صعود، وهكذا دواليك. وقد وصلت البشرية اليوم بما فيها الأمة الإسلامية إلى الحضيض، فلم تنتفع بالتّطور العلميّ الرّهيب الذي بلغته، بل هي تفقد إنسانيتها شيئا فشيئا، والعالم صار غابة كبيرة تتسلط فيها الدول العظمى على باقي الدول، وتستغلها أبشع استغلال، وبلغ اليأس من الناس مبلغا كبيرا، حتى المسلمون المؤمنون بالله ووعده أصابهم اليأس والقنوط... وهنا تأتي ذكرى المولد لتعيد نشر الأمل واليقين بالله عزّ شأنه، فقد ولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقع مظلم شديد الانحراف، وبدأ الدعوة والإصلاح وحيدا منفردا، وانتقل إلى الرفيق الأعلى وقد انطلق النّور الذي ولد معه ليبلغ أقاصي الدنيا. والدّين الذي جاء به ما زال محفوظا غظًّا طريًّا كيوم أنزل، وما زال تبشيره لنا محفوظا ثابتا صادقا، ومن ذلك قوله: “بَشِّرْ هذه الأُمّة بالسَّناءِ والرِّفعَة، والدِّين، والنّصرِ، والتّمكينِ في الأرضِ” رواه أحمد. فإذا كان المؤمنون الصادقون في محبتهم لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفوتون هذه المناسبة الجليلة والذكرى العزيزة للتذكير بفضل سيدنا وقدوتنا ومولانا، والتذكير بسنته وهديه، والتذكير بحقوقه وواجباتنا تجاهه، فلا بدّ أن يستغلوا هذه الذكرى العطرة لبثّ الأمل ومحاربة اليأس، ونشر البشرى ومحاربة القنوط. قال الحقّ جلّ شأنه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، يقول سيد رحمه الله: “في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخّرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.. تلك سنة الله في الدعوات، لا بدّ من الشّدائد، ولا بدّ من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثمّ يجيء النّصر بعد اليأس من كلّ أسبابه الظّاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله.. ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً، فلو كان النصر رخيصاً لقام في كلّ يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً، أو تكلفه القليل. ودعوات الحقّ لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنّما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء”. هذا درس واحد من دروس المولد يجب أن يحفظ. وينتبه إليه.... *إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة