يقول باتريك واسا نزيابو: "إن الذرة تنمو بسرعة كبيرة إلى درجة يصعب معها معالجة جميع المحصول. فالأرض هنا غنية وتوفر لنا الغذاء من نواح عديدة، ولهذا نعدها أرضا مقدسة". كان نزيابو يفصل بحركة خفيفة من يده عشرات من حبوب الذرة الذهبية عن الكيزان المجففة في الشمس ويضعها في دلو مملوء عن آخره بالذرة الصفراء. وكان الشاب الثلاثيني محاطا بمجموعة أطفال يتابعونه بشغف وهو يفرز محصول الذرة في قطعة أرض خصبة تبعد أقل من نصف ساعة سيرا عن قريته، نكالا، وسط الغابة المطيرة الاستوائية بجمهورية الكونغو الديمقراطية. وتمتد علاقة سكان قرية نكالا بالغابة لأجيال مضت، لكن هذا العلاقة اتخذت منحى جديدا في السنوات الأخيرة. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، مُنح 300 مزارع من نكالا، 16 ميلا مربعا من أراضي الغابات في حوض الكونغو الذي يضم ثاني أكبر كتلة من الغابات الاستوائية المطيرة في العالم، بموجب خطة جديدة. فقد ضمنت هذه الخطة، حصول المجتمعات المحلية للمرة الأولى في التاريخ على الحق القانوني لحيازة أراضي الغابات التي يعيشون فيها وإدارتها. وبعد عامين فقط، ظهرت بوادر نجاح هذه الخطة، وقد تصبح الحيازة المجتمعية أداة قوية لإيقاف تضاؤل رقعة الغابات في حوض الكونغو، وتسهم في تخفيف وطأة الفقر في واحدة من أفقر المناطق في العالم. وتقول فيفي ليكوند مبويو، رئيسة إدارة الغابات المجتمعية التابعة لوزارة البيئة، وهي الجهة المنوط بها إدارة هذه الخطة: "تمثل هذه الخطة فرصة هائلة لإحداث تغيرات جذرية في البلاد، فهي تختلف عن جميع الأنظمة السابقة". ويضم حوض الكونغو غابة مطيرة أولية مساحتها نحو 1.2 مليون ميل مربع (314 مليون هكتار)، تعد الأقدم والأكثر كثافة والأكثر أهمية بيئيا في العالم. وتسهم هذه الغابة في الحفاظ على استقرار المناخ العالمي، وتمتد عبر ستة بلدان في وسط أفريقيا، وهي جمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو والغابون وغينيا الاستوائية. في حين أن مساحة غابات الأمازون المطيرة الأولية تبلغ نحو 2 مليون ميل مربع. وتمتص أشجار حوض الكونغو ما يصل إلى 1.2 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون سنويا وتختزن كميات أكبر من الكربون بمقدار الثلث مقارنة بالكميات التي تمتصها غابات الأمازون في نفس المساحة من الأراضي. وتوجد في الهكتار الواحد من غابة حوض الكونغو المطيرة أنواع من الأشجار تفوق جميع أنواع الأشجار المحلية في المملكة المتحدة. وتضم غابة الكونغو المطيرة أيضا أكبر أراضي الخث الاستوائية في العالم، وما يقدر بنحو 10 آلاف نوع من النباتات الاستوائية والحيوانات المهددة بالانقراض التي لا توجد في أي مكان آخر في العالم، مثل أفيال الغابات وغوريلا الجبال والمنخفضات وحيوان الأوكابي. ويقول سايمون لويس، الخبير الجغرافي بجامعة لندن الجامعية والذي يجري أبحاثا ميدانية في حوض الكونغو منذ عام 2002: "هذه الغابة التي تعد أكبر مخزن للتنوع البيولوجي، تقدم خدمات جليلة للبشرية. تؤدي غابة حوض الكونغو المطيرة، التي لا تزال تقطع فيها الأشجار بوتيرة أقل مقارنة بغابات الأمازون وأثبتت أنها أكثر صمودا في وجه الظواهر المناخية، دورا غاية في الأهمية". لكن لويس اكتشف أن مظاهر التغير المناخي، مثل ارتفاع درجات الحرارة وتواتر موجات الجفاف، أثرت على قدرة الغابة المطيرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون. فقد لاحظ لويس أن الأشجار في حوض الكونغو، التي أثرت الظواهر الجوية المتطرفة على نموها، فقدت قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون منذ عام 2010. وتضاءل أيضا عدد الأشجار في الغابة المطيرة. فالأنشطة الصناعية، مثل استخراج زيت النخيل والتحطيب والتعدين، أسهمت في تسارع وتيرة قطع أشجار الغابات وتدمير موائل الحيوانات والإخلال بتوازن النظم البيئية. وتشير تحليلات منصة "غلوبال فورست ووتش"، التي توفر بيانات لمراقبة الغابات، إلى أن خسارة الغابات في حوض الكونغو تضاعفت من عام 2002 إلى 2019. إذ تشير التقديرات إلى فقدان 590 ألف هكتار من مساحة الغابات في عام 2019 وحده. وخلصت دراسة نشرت في عام 2018، إلى أن جمهورية الكونغو الديمقراطية قد تختفي منها الغابة المطيرة الأولية بنهاية القرن الحالي إذا استمر فقدان الغابات بنفس الوتيرة. وعلى عكس غابات الأمازون، حيث تسبب التحطيب والزراعة في تدهور الغابات، فإن إنتاج الفحم والممارسات الزراعية القائمة على القطع والحرق لا يزالان يشكلان المحرك الرئيسي لإزالة أشجار الغابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وتقول أليكساندرا تيوكافينا، العالمة الجغرافية بجامعة ميريلاند، إن نحو 93 في المئة من خسارة الغطاء الحرجي في الفترة بين عام 2000 و2014، في جمهورية الكونغو الديمقراطية، كان سببها الممارسات الزراعية لصغار الحائزين. ولهذا يعلق دعاة حماية البيئة آمالا على قانون إدارة المجتمعات المحلية للغابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وأكدت دراسة أجراها معهد الموارد العالمية دور منح امتيازات الغابات للمجتمعات المحلية في تحفيز أفراد المجتمع لإدارتها بأساليب مستدامة. إذ خلصت الدراسة إلى أن المجتمعات المحلية تحافظ على مخزون الكربون في الغابات وتحسنه عندما تحصل على حق ملكيتها. وأجرت مؤسسة الغابات المطيرة في المملكة المتحدة، التي تهدف لمراقبة تنفيذ امتيازات الغابات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، دراسة تحليلية خلصت إلى أن معدل إزالة الأشجار في الامتيازات التي منحت للمجتمعات المحلية في عام 2019، كان أقل بنسبة 23 في المئة عن المعدل الوطني وأقل بنسبة 46 في المئة عنه في الامتيازات الممنوحة لشركات الأخشاب. وتدل هذه البيانات على أن الأراضي التي يدير فيها السكان المحليون الغابات كأنها ملك لهم، تقل فيها معدلات قطع الأشجار. وتقول أنّا أوسونا أوروزكا، منسقة مؤسسة الغابات المطيرة بجمهورية الكونغو الديمقراطية: "لقد تغيرت نظرة المجتمع الدولي لطرق حفظ الغابات، فقد انتهى عصر استخدام الأسلحة والحراس. وقد انتشر الآن نموذج الإدارة المجتمعية للغابات". وقد ورد مفهوم إدارة المجتمعات المحلية للغابات للمرة الأولى في قانون الحراجة في فبراير/شباط 2002، وأصدر رئيس الوزراء قرارا في عام 2014 عرض فيه بالتفصيل كيفية حصول المجتمعات على امتيازات لإدارة الغابات ومُنح أول امتياز لسكان قرية بوليما في مقاطعة إكواتور في عام 2017. ومنحت حتى الآن امتيازات للمجتمعات المحلية لاستغلال مساحة تتجاوز مليوني هكتار من الغابات المطيرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وبحسب تقديرات مؤسسة الغابات المطيرة في المملكة المتحدة، فإن ما يصل إلى 75 مليون هكتار من أراضي الغابات متاحة الآن للمجتمعات المحلية بموجب هذه الخطة للاستفادة منها وإدارتها. وفي هذه الدولة التي تبدو فيها مشكلة البطالة مستعصية، ويعيش فيها 72 في المئة من السكان على أقل من 1.90 دولارا يوميا، لم يقاوم الكثيرون إغراء صيد الحيوانات البرية في الغابة لجمع المال. ويقول نزيابو: "إن المبالغ التي قد تجنيها من عملية صيد واحدة قد تكفي لسداد مصاريف المدارس لعام كامل، وستضمن الحصول على الطعام الكافي لعائلتك لمدة طويلة". ومنذ أن منحت امتيازات لقرية نكالا لاستغلال الغابات قبل عامين فقط، زاد تنوع المحاصيل في المزارع، إذ تزرع الأسر الذرة والأناناس والكسافا، لحماية الأراضي من الظواهر الجوية المتطرفة وغير المتوقعة، وتنويع مصادر دخل المجتمعات. وكان هذا أحد شروط الإدارة المستدامة للامتيازات. وأقيمت جمعيات تعاونية لبيع منتجات المجتمعات المحلية، مثل السلال والأبسطة المصنوعة من سعف النخيل، لتوفير فرص عمل لنساء القرية. وعن تأثير الامتيازات على القرية، يقول إنوسنت ليتي، المنسق الإقليمي بمنظمة "مباو مون تور" الأهلية التي تساعد السكان في الحصول على الامتيازات: "كانت قرية نكالا عندما جئت إليها قرية نائية وتفتقر للخدمات، لكن اليوم، أقيمت فيها الجسور لعبور الأنهار، وافتتحت مدرسة وتحسنت الحياة اليومية". هذا المشهد متكرر في مختلف قرى جمهورية الكونغو الديمقراطية، فعلى بعد 320 كيلومترا من قرية نكالا، منح سكان قبيلة لوكولاما، البالغ عددهم 500 شخص، نحو 10,000 هكتار من أراضي الغابة في عام 2019، ويربون الآن النحل ويزرعون الطماطم ويجمعون الديدان. وفي يانونغي، يساعد مركز أبحاث الحراجة الدولية أربعة مجتمعات نائية للحصول على امتيازات من خلال زراعة الفول السوداني وموز الجنة. وتشترط الحكومة المحلية أن يرسم كل مجتمع حدود الامتيازات بالاتفاق مع القرى المجاورة، من خلال التعاون في رسم خرائط للأراضي المخصصة لكل مجتمع لتفادي النزاعات، وأن تجري المجتمعات دراسات عن التنوع الحيوي والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتضع خططا لإدارة الغابات واستغلال الأراضي تعرض فيها بالتفصيل الأنشطة المقترحة وكيفية تنفيذها بأساليب مستدامة. وفي قرية نكالا، تجمع غلوريا إيسيفا، البالغة من العمر 22 عاما، الحطب وأوراق الكسافا في الجزء المخصص للزراعة وتبيع محصولها في السوق بالقرية المجاورة، وتقول: "يمكنني الاحتفاظ بالمال الذي أكسبه لنفسي، طالما أحصل على مبالغ معقولة، وهذا ما اتفقت عليه القرية". وبمجرد منح الامتياز، ينبغي أن تشكل القرية لجانا محلية للتعامل مع النزاعات أو أي قرارات تتخذ لإدارة الأراضي. ويقول بولين إيبابو، رئيس لجنة نكالا: "كان الناس سابقا يأتون من خارج القرية ويقطعون أشجارنا، لكن منذ أن أصبحت حقوق سكان القرية في استغلال هذه الأرض وحيازتها مكفولة بموجب القانون، لم يتعد أحد على أراضينا". غير أن تكاليف تلبية هذه الشروط باهظة. إذ تشير تقديرات مؤسسة الغابات المطيرة بالمملكة المتحدة إلى أن تكاليف منح امتيازين في جمهورية الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك الاجتماعات ورسوم استخراج المستندات والالتزام بالقوانين، بلغت 109 آلاف دولار و153 ألف دولار، وهذه المبالغ تبدو مستحيلة للكثيرين من أفراد هذه المجتمعات الذين يعيشون في فقر مدقع. وبخلاف التكلفة، ثمة مشاكل أخرى تعوق تنفيذ هذه الخطة، منها أن الكثير من المجتمعات النائية في الكونغو لا تعرف عنها شيئا. وبسبب الإجراءات المعقدة، قد يكون حصول المجتمعات على هذه الامتيازات من دون دعم وإرشاد المنظمات الأهلية، مستحيلا. لكن خبراء إدارة المجتمعات للغابات يقولون إن خطة جمهورية الكونغو الديمقراطية هي النموذج المعدل لمبادرات أخرى مشابهة في الدول المجاورة، مثل الكاميرون والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى. وتقول سيلفيا فيراري، عالمة حراجة بمركز أبحاث الحراجة الدولية في كيسانغاني: "في جمهورية الكونغو الديمقراطية، إذا أثبت كفاءتك في إدارة الأرض، فمن حقك الاحتفاظ بها مدى الحياة، في حين أن في الكاميرون، كثيرا ما تكون الامتيازات غير دائمة". وتخصص جمهورية الكونغو الديمقراطية 10 أضعاف مساحات الأراضي التي تخصصها الدول الأخرى لامتيازات الغابات، ويشترط القانون تنويع استخدامات الأراضي. لكن هذه الخطة لم تخل من المخالفات. إذ أجرت إحدى المنظمات الأهلية تحقيقا في مواقع الإدارة المجتمعية للغابات، وخلصت إلى أن خطة امتيازات الغابات حققت نجاحا كبيرا، لكن المنظمة رصدت أيضا مشاكل عديدة. فنصف الامتيازات تقريبا كانت تعتمد على مهنة واحدة، بالمخالفة لمبدأ تنويع استخدامات الأراضي. ولم تتعاون معظم المجتمعات مع المجتمعات المجاورة عند رسم الخرائط، ما أدى إلى زيادة مخاطر نشوب النزاعات. ورصدت المنظمة أيضا حالة قطع جائر للأشجار في أحد الامتيازات. ويشكو المسؤولون الحكوميون المقيدون بالقوانين الصارمة التي تهدف لمنع الإخلال بواجبات الوظيفة في هذا البلد الذي صنف بين أكثر البلدان فسادا في العالم، من نقص التمويل. فعلى الرغم من أن حوض الكونغو يضم ثاني أكبر الغابات المطيرة في العالم، فإنه لا يتلقى سوى 11.5 في المئة من التمويل العالمي المخصص لحماية الطبيعة والإدارة المستدامة للغابات، في حين يتلقى حوض الأمازون 34 في المئة منه. لكن مبويو يرى أن امتيازات الغابات ستوفر مستوى غير مسبوق من الحماية للقبائل الأصلية، ويقول: "هذه هي المرة الأولى التي تُمنح فيها القبائل الأصلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية امتيازات غابات رسمية". إذ لم تعترف مسودة القانون التي أصدرتها الجمعية الوطنية في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بحقوق القبائل الأصلية في حيازة الأراضي فحسب، لكنها نصت أيضا على توفير التعليم المجاني والرعاية الصحية لأفرادها. وإذا حققت امتيازات الغابات الأهداف المرجوة منها، فقد تقطع شوطا طويلا في حماية ثاني أكبر غابة مطيرة في العالم والحفاظ عليها. ويقول نزيابو: "إن حياتنا الآن أصبحت أكثر ارتباطا بالغابة من أي وقت مضى، فمصيرنا واحد. وهذا يشجعنا على الحفاظ عليها". يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Future &