من علامات حسن إسلام المرء، وكمال الإيمان وموجبات العتق من النار، ودخول الجنة، ومحبة الله تعالى، تفضيل وتقديم الغير وهو خلق عزيز في هذا الزمان، ولا يقدر عليه إلا أصحاب النفوس الكبيرة المؤمنة، حيث حل محله في الكثير من الأحيان الانفراد والاختصاص بالنفس، والأمران متعاكسان، حيث إن السلوك الأول يطلق عليه الإيثار وهو كما يقول الإمام القرطبي (تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة والصبر على المشقة)، والسلوك الثاني يطلق عليه الأثرة، هو عكس الإيثار، لأنها تعني استئثار وانفراد المرء عن أخيه بما هو محتاج إليه، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم ‘'ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض''، وما ضاعت حقوق الناس اليوم إلا لغياب خلق الإيثار عن الأنفس وفي الأذهان، لأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى تقديم غيره في الشيء مع حاجته إليه، وهو مضيع لحقه. كما لا يتصور من شخص أن يعطي لغيره الأكثر ويبقي لنفسه شيئا وهو مضيع لحق هذا الغير. وكذلك لا يصح في الأذهان والواقع أن يبذل ويعطي بسهولة شخص مما عنده لغيره، وهو مضيع لحق هذا الغير.. وهكذا ترى أن مراتب الإيثار من سخاء وجود وإيثار ضمان لأداء حقوق الآخرين، وحماية لها، فإن لم يبلغ الإنسان درجة من هذه الدرجات فعلى الأقل التزم بأداء الحق. ومن هنا ندرك ما أخرجته مدرسة النبوة من تلك القدوات والنماذج الرائعة في حياة الصحابة رضوان الله عنهم، يعتبر من الهدي الرائع والسلوك الصحيح والتطبيق الواقعي لآيات الذكر الحكيم والسنة المطهرة من مثل قوله تعالى: ‘'والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون'' سورة الحشر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘'من يضم - أو يُضيّف- هذا؟ فقال رجال من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ‘'ضحك الله الليلة أو عجب من فِعالكما'' البخاري مسلم. وهاك أخي القارئ صورة رائعة أخرى من صور المؤثرين على أنفسهم وقعت في حادثة اليرموك، حيث تحوّل رجال من قريش كانوا متخاصمين في الجاهلية إلى إخوة في الله متحابين متنافسين في البذل والعطاء والسخاء والإيثار بعد أن تغلغل الإيمان إلى نفوسهم، وهم عكرمة بن أبي جهل، وسهل بن عمرو، والحارث بن هشام، فعندما نفدت مدخرات المياه وأهلك العطش الجيش الإسلامي المواجه للرومان البيزنطيين، يحدثنا هشام بن العاص قال: أدركت عكرمة بن أبي جهل وهو يجود بنفسه عطشا، فقدمت له بقية ماء فنظر إلى سهل بن عمرو، فإذ أعجزه العطش عن الكلام قال مشيرا: ابدأ بهذا... فنظر إلى الحارث بن هشام فقال: ابدأ بهذا...وكل منهم يؤثر الآخر على نفسه بالشربة، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال: ‘'بنفسي أنتم''. وهذه صورة أخرى للإيثار، حيث أهدي إلى رجل من الصحابة رأس شاة فقال: إن أخاه في الله فلانا أحوج به منه فبعث به إليه، وهذا أهداه إلى أخ له في الله يعتقد أنه أحوج إليه حتى تداوله سبعة بيوت ورجع في آخر الأمر إلى الصحابي الكريم الذي أهدي إليه أولا دون أن يعرف الأخير أنه جاء من الأول الذي عاد إليه. هذه بعض الصور قد تبدو عند البعض خيالية، ولكن القرآن يصنع العجائب، وتزكية النفس ومجاهدتها تأتي بما هو أعظم لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولمن أوتي قوة اليقين.. وفي حياتنا المعاصرة نماذج لا تقل أهمية لمن اطلع وفتش عنها.. فلا غرابة حينئذ: ‘'والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين'' الآية الكريمة.