نشط الشاعر المصري هشام الجخ، أول أمس، أمسية شعرية اهتزت لها قاعة "الأطلس" وكادت تنفجر من الحشود البشرية المتوافدة من كل حدب وصوب، ومن مختلف الشرائح الاجتماعية والأعمار، صفقوا وهتفوا وتواصلوا مع الشاعر في حميمية، حيث بدا متأثرا بهذه الأجواء التي قد لا تحدث إلا على أرض الجزائر. صعد الفنان المنصة بحيويته المعهودة، حاملا الميكروفون، ليمثل ويؤدي شعره أكثر مما يقرؤه، وبعد تحيته الخاصة لغزة، شرع في قراءة رائعته التي أبكت الملايين "التأشيرة" وقال من ضمن مقاطعها: "سيبقى الطفل في صدري يعاديكم تقسمنا على أياديكم فتبت كل أياديكم". ويقول فيها أيضا: "أنا العربي لا أخجل ولدت في تونس الخضراء من أصل عماني وعمري زاد عن ألف وأمي لا تزال تحمل". اشتعل الجمهور من فرط حرارة السماع، علما أن هذه القصيدة كانت من أسباب شهرة هشام عربيا وقرأها على المباشر منذ سنوات في مسابقة "أمير الشعراء" بأبو ظبي. بلغ التفاعل أقصاه عندما خاطب هشام الجمهور قائلا: "يا أهل الجزائر أتجمعنا يد الله وتفرقنا يد الفيفا؟"، ليضيف: "ستشعل من جزائرنا مشاعل ما لها وهن"، لتتعالى الزغاريد والهتافات باسم الجزائر ومصر، علما أن الكثير من أفراد الجالية العربية المتواجدة في الجزائر حضرت الأمسية. قراءة الشاعر الجخ تشبه إلى حد كبير الأداء المسرحي الذي جلب كل هذه الشرائح الاجتماعية والجموع البشرية المتدفقة كالطوفان على "الأطلس"، وكان العرض حيا بتفاعل الفنان الشاعر وجمهوره العاشق. على الرغم من هذه الملحمة، إلا أن الشاعر رفض إلقاء بعض القصائد التي ألح في طلبها الجمهور، منها مثلا؛ "جحا" و«المكالمة"، ورد بالقول؛ "هذه القصائد أقرؤها داخل بلدي مصر، لأنها تتناول شؤون داخلية مصرية، بالتالي لا تصح قراءتها خارج حدود مصر، فلا انتقاد لمصر إلا داخل مصر". استطاع هشام الجخ أن يخلق تواصلا مستمرا لم ينقطع طوال السهرة التي امتدت إلى ساعات متأخرة، غلب عليها التعليق الساخر وقوة المداعبة، ليقترح في زمن ما تغيير الأجواء بقراءته لقصيدة "أيوة بغير"، وهي باللهجة المصرية الصعيدية، يقول مطلعها؛ "إحنا صعايدة وما نستحملش وعرقنا حامي" ويبرز فيها خصوصية الإنسان العربي الوفي لحبيبته، الغيور عليها والذي لا يخشى في ذلك لائمة لائم. قرأ هشام أيضا "إزيس" وهي أروع ما قيل عن المرأة العربية الأصيلة التي تضحي في صمت من أجل حبيبها الرجل حتى ولو كان لا يستحقها، لكنه في أعماقه يحبها بعروقه ويقدر لحظة إخلاصها في زمن صعب تبيعه فيه كل رفيقات السوء. قرأ أيضا "متزعليش" للمرأة المصرية والعربية، وكلها قصائد غزلية، لكنها تحمل قيما إنسانية وحضارية مستمدة من البيئة العربية وتصف محاسن المرأة المعنوية بعيدا عن مفاتن الأنوثة. يعود هشام مرة أخرى إلى قدره مع السياسة، ليقرأ رائعة "ثلاثة خرفان"، وهي قصيدة تسخر من الراهن العربي البائس، وظف فيها الشاعر التراث الشعبي بعبقرية، ليصل التاريخ بالحاضر في تسلسل منطقي متكامل الأركان، ترجمه بفصاحة اللسان وقوة صوته المدوي. توقف الشاعر عن الكلام ليشكر شعب الجزائر المضياف ويتوشح بالعلم الوطني مخاطبا جمهوره ؛«أعد من خلالكم الشعب الجزائري ب 10 أمسيات شعرية، سألقيها في 10 ولايات خارج العاصمة خلال زيارتي القادمة"، لتنهال عليه باقات الزهور من الجمهور الذي صعد بعضه إلى المنصة، كانت آخره عجوز طاعنة بلباسها القبائلي الأصيل، قبلته وسلمته باقتها من الورد، وبدوره اختار الشاعر ورودا أهداها لجمهوره الحاضر. كرم الشاعر أيضا ببرنوس جزائري ألبسه إياه الأستاذ عز الدين ميهوبي، كما تسلم درع مؤسسة "النهار" راعية هذا اللقاء. وكرم عميد الشعراء الجزائريين أبو القاسم خمار ببرنوس أصيل، علما أن هشام لم يكف عن احتضانه تماما كما يفعل الابن مع أبيه. وعلى هامش اللقاء، التقت "المساء" السيد علي عنباوي (سوري مقيم بالجزائر)، وهو المدير التنفيذي لقناة "النهار" الذي وصف الجمهور الجزائري بالشعب المثقف، الحر، العاطفي، الذي تؤثر فيه الكلمة الأصيلة. علما أن القصيدة كانت دوما في طليعة نضاله منذ العهد الاستعماري، وصولا إلى ثورة نوفمبر المجيدة، لتصبح القصيدة بعدها رمزا للتحرر ولفلسطين الأبية، مؤكدا أن هذه القناة الإعلامية ستستثمر أكثر في المشهد الثقافي الراقي . للتذكير، أعادت هذه الأجواء الخاصة تلك التي كان يعيشها الجمهور الجزائري في هذه القاعة وفي غيرها من قاعات العاصمة مع الراحل محمود درويش الذي كان مرتبطا عضويا بجمهوره الجزائري، إلى درجة أنه قال ذات مرة؛ "وسط جمهوري الجزائري تحضر أيضا المرأة المسنة ب«الحايك"، تصفق في الوقت الذي يجب أن تصفق فيه وتتفوق على الحاضرين المثقفين، ذلك لأنها استوعبت وأحست، فتحية للجمهور الجزائري الذي يستحق العلامة الكاملة.