يحيي الشعب الجزائري غدا، الذكرى الثالثة والخمسين لمجازر 17 أكتوبر 1961، والتي تخلّد إلى الأبد ذلك اليوم المشهود الذي كتب فيه التاريخ إحدى الصفحات الدامية للقمع الاستعماري الفرنسي بعقر داره بباريس، ضد أفراد جالية مسالمة تنتمي إلى شعب أصر على النضال من أجل استعادة سيادته وحريته. لقد سجل تاريخ الثورة الجزائرية الحافل بالبطولات يوم الثلاثاء 17 أكتوبر 1961، بأحرف من ذهب، وهو يوم خروج المهاجرين الجزائريين إلى شوارع باريس وضواحيها في مظاهرات سلمية، أرادوا من خلالها المطالبة برفع حظر التجول، وفك قيود الرقابة البوليسية على تحركاتهم العادية، تلبية لنداء فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، التي سجلت حالات العنف المتكررة الممارسة من قبل الشرطة الفرنسية في حق الجالية الجزائرية. ونقلت شهادات الجزائريين الذين عايشوا تلك الأحداث الدامية، أن العمليات الوحشية التي استهدفت المهاجرين الجزائريين بدأت قبل تاريخ 17 أكتوبر 1961 بأيام، حيث نفذت الميليشيات العنصرية المشكلة من عناصر البوليس الفرنسي وعملائه، بداية من يوم 3 أكتوبر 1961، عدة اغتيالات واعتداءات ضد المهاجرين الجزائريين، فيما أعلن المدير العام للشرطة البلدية "ليغاي موريس" في 5 أكتوبر، أنه تلقى تعليمة صادرة عن مدير الشرطة "موريس بابون" تعلن إجراء "حظر التجول لجميع الفرنسيين المسلمين الجزائريين من الثامنة والنصف مساء إلى الخامسة والنصف صباحا، مع غلق كل المقاهي التي يملكها أو يرتادها الجزائريون ابتداء من السابعة مساء"، مبررا هذا الإجراء العنصري "بوضع حد للإرهاب الجزائري وتدعيم حماية أفراد الشرطة". لكن حقيقة الأمر أن ذعر السلطات الاستعمارية من تصاعد الكفاح المسلح في الجزائر، وتخوفها من تكرار سيناريو النشاطات العسكرية الفدائية، التي قام بها مناضلو جبهة التحرير الوطني بفرنسا بتاريخ 25 أوت 1958، في معظم المدن الفرنسية الكبرى، جعل قوات الشرطة تقابل المتظاهرين بالغازات المسيلة للدموع والعصي وطلقات الرصاص. ولم تخف بعض شهادات الفرنسيين عن تلك الأحداث في ذكرها لأسباب القمع البوليسي الفرنسي لأفراد الجالية الجزائريةبباريس، الإشارة إلى محاولة فرنسا تكسير العمل التعبوي لصالح جبهة التحرير الوطني داخل فرنسا، "كون هذا العمل يغذّي الكفاح المسلح بالجزائر، ويدعم ميزانية الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ولذلك كانت السياسة الفرنسية ترتكز على فرض حصار مشدد على المهاجرين الجزائريين العاملين بفرنسا، من خلال إقرار نظام حظر التجوال يوميا من الساعة الثامنة مساء إلى صبيحة اليوم الموالي". وتبعا لهذه السياسة العنصرية قامت فيدرالية "الأفلان" بفرنسا، بتنظيم مسيرة بقلب المدن الفرنسية مطلع شهر أكتوبر 1961، للتنديد بالتمييز العنصري وتكسير قانون حظر التجول المفروض على الجزائريين، ثم تم الاتفاق على تاريخ 17 أكتوبر 1961، لبداية سلسلة مظاهرات مبرمجة خلال 3 أيام متتالية، بحيث يخصص اليوم الأول لخروج الجزائريين والجزائريات عبر كامل أرجاء فرنسا، بينما تقرر لليوم الثاني خروج النساء الجزائريات رفقة أطفالهن، في الشوارع للمطالبة بإلغاء حظر التجول والإفراج عن المعتقلين الجزائريين. وتوجه العمال الجزائريون مباشرة بعد خروجهم من مقرات العمل في حدود الساعة الخامسة إلى ساحة "الأوبرا"، التي اختيرت موقعا للتجمع باعتبارها من الأماكن الاستراتيجية بباريس، وشارك في المظاهرات حوالي 80 ألف متظاهر طافوا 20 حيا من أحياء باريس المعروفة. ولصد مسيرة الجزائريين قامت الشرطة الفرنسية بسد كل المنافذ التي توصل إلى ساحة "الأوبرا"، ودخلت في صدام مع المتظاهرين، وعند ساعات متأخرة من مساء نفس اليوم، أعطى محافظ شرطة باريس السفّاح موريس بابون، أوامر لجنوده من الشرطة والحركى بقمع هذه التظاهرة، فتم التصعيد من وتيرة العنف والبطش، واستخدام العصي والقنابل المسيلة للدموع والرصاص، فقتلت الشرطة الفرنسية وجرحت العديد من المتظاهرين. وللتغطية عن فظاعة الجريمة ووحشيتها، لجأ البوليس الفرنسي إلى الإلقاء بالمهاجرين الجزائريين أحياء في نهر "السين"، وأعلنت السلطات الفرنسية آنذاك عن سقوط 200 ضحية، في حين أن عدد الضحايا فاق ال500 بين شهيد ومفقود، وامتدت حصيلة الاعتقالات لتشمل 7500 شخص من مختلف الشرائح تم الزج بالعديد منهم بالسجون، وظلت عشرات جثث الجزائريين تطفو فوق نهر "السين" أياما عديدة بعد تلك الليلة السوداء، وعشرات أخرى اكتشفت في غابتي "بولون" و«فانسون"، بالإضافة إلى عدد غير معروف من الجزائريين تم التخلص منهم رميا من على متن الطائرات ليبتلعهم البحر. ويجمع مؤرخون وشهود على تلك الأحداث الحالكة على التنديد بالحصيلة المعلنة من قبل الآمر بالقمع "بابون"، الذي تكلم عن قتيلين اثنين، حيث أشار المؤرخ الفرنسي جان لوك إينودي، إلى أنه "رسميا لا تشير سجلات مصلحة الطب الشرعي إلى أي قتيل خلال يوم 17 أكتوبر 1961"، غير أنه أكد بأن "وصف مجازر 17 أكتوبر 1961 بباريس بالجريمة ضد الإنسانية يعد الوصف الملائم". وأضاف مؤلف "مشاهد حرب الجزائر في فرنسا"، أن الجثث التي نقلت إلى مصلحة حفظ الجثث تم الإلقاء بها في نهر السين من نوافذ البناية التي تضم هذه المصلحة، لافتا إلى أن "هذه الممارسة كانت قد استعملت على نطاق واسع عام 1958، خلال حظر تجول أول فرض بباريس في حق الجزائريين الذين تم إيقافهم وتعذيبهم بفالديف". من جهته أكد المؤرخ محمد القورصو، أن موريس بابون، قام عشية اندلاع مظاهرات 17 أكتوبر 1961، بزيارة كل محافظات الشرطة بالعاصمة الفرنسية من أجل تحريض عناصرها على تصفية الجزائريين بعد أن أباح قتلهم، وأشار إلى أنه تم خلال تلك المجزرة الفرنسية في حق المهاجرين الجزائريين، إلقاء العديد من الجزائريين من جسر "سان ميشال" إلى نهر السين وهم أحياء، مقدّرا عدد الضحايا بأكثر من المائة خلافا للحصيلة الرسمية التي تحدثت عن وجود قتيلين ضمن صفوف المتظاهرين إثر إطلاق النار. واعتبر القورصو موريس بابون، من أكبر مجرمي الحرب الذين عرفتهم الجزائر إبان الثورة التحريرية، مذكّرا بكون هذا المجرم، أول من أمر بفتح المحتشدات التي كان يمارس فيها التعذيب ضد الجزائريين بمختلف أشكاله، وأكد بأن مجازر 17 أكتوبر 1961، تبقى راسخة في الكفاح التحرري للشعب الجزائري لما كشفت عنه من عنصرية وقمع ضد الجزائريين، ولكونها شكلت منعطفا حاسما في التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 1962. من جانبه اعتبر المحامي الفرنسي الراحل جاك فرجاس، مجازر أكتوبر 1961، جريمة ضد الإنسانية لا يمكن العفو عنها لأن هذه المجازر لا يمحها الزمن، منتقدا في شهادته عن تلك الأحداث الدامية "السرعة" التي أدانت بها السلطات الفرنسية موريس بابون، على تورطه في ترحيل اليهود، دون إزعاجه بشأن جرائمه ضد الجزائريين الذين أمر بالإلقاء بهم في "السين"، فيما أكد المجاهد محمد غفير، المدعو "موح كليشي" بأن أحداث 17 أكتوبر 1961، لم تكن مجرد "حركة شعبية" و إنما "معركة باريسية"، مستندا في ذلك لتقارير المؤرخين، مشيرا إلى أن العالم كله كانت له دراية بهذه المجازر التي تناولها العديد من المؤلفين الأجانب. وبالفعل فقد أدرك المجتمع الدولي بما تم فعله في تلك الليلة الممطرة بكرامة الجزائريين العزّل، تحت أوامر بابون، الذي نفذ تعليمات صدرت من أعلى سلطات دولة مستعمرة قامعة، وبعد أن تم التستر بشكل متعمّد لعدة عشريات عن تلك المجازر التي ارتكبت وأخفيت وراء أكذوبة دولة في ظل اللامبالاة، إلى أن اضطرت فرنسا تحت ضغط الجمعيات الحقوقية، وضغط التاريخ الذي لا يرحم الاعتراف رسميا بهذه الجريمة في سنة 2012 بعد 51 سنة، من خلال بيان رئاسي صادر عن الرئيس الحالي فرانسوا هولاند، الذي أعلن بأن "الجمهورية تعترف بكل وعي بالقمع الدموي الذي ارتكبته الشرطة في حق الجزائريين في 17 أكتوبر 1961 بالعاصمة الفرنسية". وفي حين اعتبر البعض هذا الاعتراف خطوة ايجابية إلى الأمام اتخذتها الدولة الفرنسية، وتتويجا لنضال طويل قاده المواطنون والمؤرخون والحركة الجمعوية ووسائل الإعلام واستمر لسنوات، اعتبر البعض الآخر هذه الخطوة بغير الكافية، داعيا إلى تعميم الاعتراف الرسمي لفرنسا ليشمل كافة مراحل الثورة التحريرية المجيدة، فيما دعت "الهيئة الجزائرية للدفاع عن الذاكرة والسيادة" بمناسبة إحياء الجزائريين للذكرى ال53 لمجازر 17 أكتوبر 1961، السلطات الفرنسية إلى الإفراج عن رفاة الشهداء الجزائريين الذين قضوا برصاص الشرطة الفرنسية في المظاهرات التي شهدتها العاصمة الفرنسية في ذلك اليوم المشؤوم، بغرض دفنهم في بلادهم. وأشارت الهيئة في بيان عنونته ب«17 أكتوبر مجزرة بقبور مفتوحة.. أعيدوا لنا عظام موتانا"، إلى أن الكثير من ضحايا إرهاب البوليس الفرنسي، "دفنوا سرا في مزابل عمومية في مدينة كريتاي"، وهو ما يستدعي تكريمهم بدفنهم في مقابر تليق بتضحياتهم، في وقت لا زالت العديد من الجمعيات تشدد على ضرورة إدراج هذه المأساة في كتب مادة التاريخ، وتمكين الباحثين من الإطلاع بحرية على الأرشيف، وتطوير البحث التاريخي في إطار فرنسي وجزائري ودولي.